- يمثل مبدأ فصل السلطات أحد أعمدة الفكر السياسي الديمقراطي، بوصفه ضمانة أساسية لمنع احتكار السلطة وتعزيز التوازن بين مؤسسات الحكم. ورغم ما يبدو من بساطة نظرية هذا المبدأ، إلا أن تطبيقه العملي، لاسيما في دول الشرق الأوسط، غالبًا ما يواجه تحديات بنيوية وسياسية. وفي السياق السوري، يكتسب موضوع فصل السلطات بعدًا خاصًا نظرًا إلى طبيعة النظام السياسي المتجذر في المركزية، وتعقيدات الواقعين الداخلي والخارجي.
يعرض هذا التقرير قراءة تحليلية لموقع مبدأ فصل السلطات في النظام السياسي السوري، من خلال استعراض الإطار القانوني والدستوري، وتشخيص مكامن الخلل، إضافة إلى بحث دور المجتمع المدني والإعلام والمنظمات الحقوقية، والتأثيرات الإقليمية والدولية على فرص تفعيله.
أولاً: الإطار الدستوري والواقع العملي لفصل السلطات في سوريا
منذ إعلان أول دستور سوري عام 1920، تكرّس مبدأ فصل السلطات نظريًا، عبر النص على ثلاث سلطات رئيسة:
– السلطة التشريعية ممثلة في مجلس الشعب.
– السلطة التنفيذية ممثلة في رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء.
– السلطة القضائية بمختلف مستوياتها.
ورغم وجود هذه النصوص، إلا أن الممارسة الفعلية أظهرت هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، مما أدى إلى اختلال التوازن المفترض. فقد بقي مجلس الشعب يؤدي دورًا شكليًا في التشريع والرقابة، في حين تعرضت السلطة القضائية لضغوط أمنية وسياسية أفقدتها استقلالها.
وفي حين لم ينقطع الحديث عن ضرورة تفعيل مبدأ الفصل، خصوصًا بعد عام 2011، ظل الواقع متأثرًا بغياب الإرادة السياسية، وضعف المؤسسات، وهيمنة السلطة المركزية، ما أعاق بناء نموذج ديمقراطي فعلي.
ثانياً: دور المجتمع المدني والإعلام في دعم الفصل
تُعدّ منظمات المجتمع المدني والإعلام ومنظمات حقوق الإنسان أطرافًا مساندة في تفعيل مبدأ فصل السلطات، من خلال:
– نشر الوعي الدستوري والقانوني بأهمية الفصل.
– مراقبة أداء السلطات، وتقديم تقارير تقييمية موضوعية.
– المساهمة في بناء قدرات فاعلي المؤسسات القانونية والقضائية.
– الضغط من أجل إصلاحات قانونية ومؤسسية عبر حملات المناصرة.
وقد لعب الإعلام السوري، رغم القيود الصارمة، أدوارًا متقطعة في كشف الخلل المؤسسي، بينما تمثل منظمات حقوق الإنسان آلية رقابية مهمة لتوثيق الانتهاكات ومخالفات السلطات، والمطالبة بمحاسبة المسؤولين عنها.
ومع تحسّن بيئة الحريات الإعلامية بعد تغيّرات سياسية محتملة، يمكن أن يؤدي الإعلام المستقل دورًا أساسيًا في توجيه النقاش العام حول إصلاحات فصل السلطات.
ثالثاً: التحديات الإقليمية والدولية وتأثيرها على فرص الإصلاح
تُشكل البيئة الإقليمية والدولية عاملًا حاسمًا في مدى قدرة النظام السوري على تطبيق إصلاحات جوهرية، ومنها مبدأ فصل السلطات. فقد أدى الاستقطاب الإقليمي، والدعم السياسي والعسكري الخارجي، إلى تكريس النموذج السلطوي المركزي، ما أضعف قدرة المؤسسات الوطنية على العمل باستقلالية.
كما استخدمت السلطة ذرائع “الاستقرار” و”الأمن القومي” لتبرير استمرارية المركزية وغياب الإصلاح المؤسسي، في حين أدّى غياب توافق دولي بشأن الملف السوري إلى تجميد مبادرات الإصلاح الجاد، وغياب الضغوط المؤثرة لتفعيل مبدأ التوازن بين السلطات.
رابعاً: نحو فصل حقيقي للسلطات: الشروط والآفاق
لكي يتحقق فصل فعلي بين السلطات في سوريا، لا بد من توفر جملة من الشروط، أبرزها:
– إرادة سياسية جادة تتجه نحو إصلاح مؤسساتي لا تجميلي.
– دستور جديد أو معدل ينص بوضوح على التوازن والرقابة المتبادلة بين السلطات.
– تفعيل دور المجتمع المدني والإعلام والمنظمات الحقوقية لضمان رقابة شعبية ومجتمعية فعالة.
– قضاء مستقل ونزيه يمتلك أدوات قانونية ودستورية لحماية الحقوق وضمان سيادة القانون.
– سلطة تشريعية منتخبة تمثل الإرادة الشعبية وتمارس رقابة فعلية على الأداء التنفيذي.
يمكن القول: يتمثل فصل السلطات في الحالة السورية أكثر من مجرد إصلاح دستوري؛ إنه مدخل لإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة وسيادة القانون. فغياب التوازن بين السلطات كان أحد أسباب هشاشة البنية السياسية، وتكريس الاستبداد، وتهميش الإرادة الشعبية.
ولذلك، فإن أي مشروع لإعادة الإعمار السياسي والاجتماعي في سوريا لا يمكن أن ينجح دون اعتماد هذا المبدأ، وتوفير بيئة مؤسسية وتشريعية تضمن تطبيقه، واستمرار الرقابة عليه.