عقب إسقاط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، أعلنت الإدارة السورية في 29 يناير/كانون الثاني 2025، تعيين أحمد الشرع رئيساً للمرحلة الانتقالية، إلى جانب إلغاء العمل بالدستور، وحلّ الفصائل المسلحة والأجهزة الأمنية، ومجلس الشعب (البرلمان)، وحزب البعث العربي الاشتراكي.
وقد شكّل هذا الإعلان نقطة تحوّل دراماتيكية في المشهد السوري، دخلت معها البلاد طوراً جديداً من التشكل السياسي والحقوقي.
شهدت سوريا منذ ذلك الحين تحولات كبيرة في بنيتها العامة، يعرفها السوريون أو اطلعوا على تفاصيلها، لكن ما لا يقل تعقيداً – بل لعله أكثر ما يعتري المرحلة من تعقيد – هو المسار القانوني الذي وجدت سوريا نفسها في خضمّه بعد عقود من القوانين المؤدلجة لخدمة سلطة الأسد ونظامه.
من المسلّم به أن أي ثورة تُتوّج بانتصار، لا سيما بعد حرب طويلة كما في الحالة السورية، تترك خلفها حالة من التشتت في مؤسسات الدولة، يصاحبها غالباً شلل أو تعليق فعلي لكثير من القوانين النافذة، وتزداد تعقيدات هذا الواقع حين تكون هذه القوانين قد صيغت أصلاً لخدمة جهاز استبدادي أمني، ولإجهاض الحريات العامة على مدى عقود.
كانت مطالب الثورة السورية في جوهرها تدور حول الحرية والعدالة والكرامة، وكلها مفاهيم من المفترض أن يحميها ويؤسس لها القانون، لا أن ينتهكها. غير أن قوانين نظام الأسد كانت العكس تماماً، بل زادت قمعاً بعد اندلاع الثورة عام 2011، بدءاً من القوانين التي مسّت حقوق الملكية، والتي استُخدمت للاستيلاء على ممتلكات المواطنين، وليس انتهاءً بقوانين “مكافحة الإرهاب” التي تحولت إلى أداة بطش سياسي، وقوانين “الجرائم الإلكترونية” التي كمّت الأفواه وقمعت التعبير عن الرأي.
وقد أدت هذه المنظومة القانونية القمعية إلى ملاحقة أكثر من ثمانية ملايين سوري وفق تقارير وإحصائيات رسمية، معظمهم لأسباب تتعلق بالرأي أو الانتماء أو حتى بسبب ممتلكاتهم المرغوبة من قبل مراكز النفوذ في نظام الأسد.
هذا السياق القانوني المأزوم كان لا بد أن يتبدل عقب سقوط النظام، وقد جاء الإعلان الدستوري السوري الصادر عن الرئيس أحمد الشرع ليؤسس لأول بوصلة قانونية جديدة للدولة السورية. يتضمن هذا الإعلان مواد هامة تتعلق بالعدالة الانتقالية، والمفقودين، والجرائم المرتكبة من قبل نظام الأسد، إلا أن طبيعته التأسيسية – كأي إعلان دستوري – لا تخوله التفصيل في الإجراءات القانونية، بل يُفترض أن يَترك ذلك للقوانين التشريعية اللاحقة، وهي اليوم مُعطّلة بسبب غياب مجلس الشعب (أو المجلس التشريعي) الذي لم يُشكل بعد.
الإعلان الدستوري كإطار انتقالي مؤقت
أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع الإعلان الدستوري لتنظيم المرحلة الانتقالية، مؤكداً أنه ليس بديلاً عن دستور دائم، بل خطوة ضرورية لسد الفراغ القانوني بعد إلغاء دستور 2012 الذي صاغه نظام الأسد.
تضمن الإعلان مبادئ مهمة مثل الفصل بين السلطات، وضمان الحقوق والحريات، وتشكيل برلمان تشريعي ولجنة لصياغة دستور دائم.
تشكيل الهيئات الانتقالية بغياب السلطة التشريعية
في ظل غياب مجلس الشعب، أصدر الرئيس الشرع مراسيم تشريعية (المرسوم 19 والمرسوم 20) لتشكيل هيئات مثل هيئة العدالة الانتقالية وهيئة المفقودين، وعلى الرغم من أهمية هذه الهيئات في معالجة قضايا العدالة والمفقودين، فإن تشكيلها دون إطار تشريعي واضح يثير تساؤلات حول آليات تنظيم عملها من الناحية القانونية، إذ إنه من المفترض أن يتم إنشاء مثل هذه الهيئات من خلال قوانين يصدرها مجلس الشعب لضمان استقلاليتها وفعالية عملها.
أهمية تشكيل مجلس الشعب في ترسيخ الشرعية القانونية
يُعتبر مجلس الشعب المؤسسة الوحيدة المخولة بصياغة القوانين ومراقبة أداء السلطة التنفيذية، وغيابه يعرقل عملية الانتقال الديمقراطي ويضعف من شرعية القرارات المتخذة خلال المرحلة الانتقالية، وقد أشار الإعلان الدستوري إلى ضرورة تشكيل مجلس الشعب خلال 60 يوماً من إصداره، إلا أن ذلك لم يتحقق بعد، مما يفاقم من الفجوة القانونية القائمة.
التعيينات الإدارية وتداخل السلطات
شهدت المرحلة الانتقالية تعيينات إدارية من قبل الرئيس، مثل تعيين نواب الوزراء، وأحياناً منح صلاحيات لوزراء لتعيين نوابهم، هذا التداخل في الصلاحيات يعكس غياب إطار قانوني واضح ينظم العلاقة بين السلطات المختلفة، ويؤكد الحاجة الماسة إلى مجلس شعب يضبط هذه العلاقات من خلال التشريع والمراقبة.
إن تأسيس مجلس الشعب يشكل خطوة أساسية في بناء دولة القانون والمؤسسات في سوريا ما بعد الأسد. فهو الضامن لشرعية القرارات والإجراءات المتخذة خلال المرحلة الانتقالية، والمُعبّر عن إرادة الشعب السوري في بناء مستقبل ديمقراطي يحقق العدالة والحرية والكرامة. لذلك، يجب الإسراع في تشكيل مجلس الشعب وتفعيل دوره التشريعي والرقابي لضمان نجاح العملية الانتقالية وترسيخ الشرعية القانونية في البلاد.