تعتبر مسألة بناء عقد اجتماعي جديد وشامل في سوريا من أكثر القضايا إلحاحاً وتعقيداً في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد. فبعد عقود من الاستبداد وسنوات من الحرب الأهلية المدمرة التي مزقت النسيج الاجتماعي وخلفت انقسامات عميقة، يواجه السوريون تحدياً مصيرياً يتمثل في قدرتهم على تجاوز خلافاتهم والاتفاق على أسس مشتركة تحكم علاقتهم بالدولة وببعضهم البعض في المستقبل. يهدف هذا التقرير إلى تحليل الدور المحوري الذي لعبته ثلاثية الانقسامات – الطائفية، والعرقية، والمناطقية – في تهديد إمكانيات بناء هذا العقد الاجتماعي المنشود، واستعراض المحاولات التي جرت في هذا السياق، والتحديات القائمة، وإمكانيات المستقبل.
يعتمد التقرير على تحليل المعلومات المستقاة من مصادر متنوعة، بما في ذلك تقارير إخبارية ودراسات ومقالات رأي، لفهم أبعاد هذه الانقسامات وتأثيرها المتشابك على الواقع السوري.
يتناول التقرير كل بُعد من أبعاد الانقسام على حدة، ثم ينتقل إلى دراسة المحاولات العملية والنظرية لبناء العقد الاجتماعي، وصولاً إلى تحليل الوضع الراهن واستشراف الآفاق المستقبلية.
أولاً: تأثير الانقسامات الطائفية
لعبت الانقسامات الطائفية دوراً محورياً ومعقداً في تمزيق النسيج الاجتماعي السوري وإعاقة بناء عقد اجتماعي مشترك. فسوريا، بتاريخها الغني بالتنوع الديني، تضم فسيفساء من الطوائف تشمل أغلبية من المسلمين السنة، وأقليات كبيرة من العلويين، والمسيحيين بمختلف طوائفهم، والدروز، والإسماعيليين، وغيرهم ، هذا التنوع، الذي كان يمكن أن يكون مصدر ثراء ثقافي واجتماعي، تم استغلاله وتسييسه بشكل ممنهج عبر التاريخ، ووصل إلى ذروة خطيرة عام 2011 عند بداية الثورة السورية و الرد عليها من قبل النظام السوري بالعنف و الاعتقال و القتل .
تاريخياً، لم تكن العلاقات بين الطوائف دائماً متوترة، لكن فترات من التهميش أو الهيمنة، وسياسات “فرق تسد” التي اتبعتها قوى خارجية وداخلية، تركت بصماتها العميقة. صعود نظام الأسد، المنتمي للطائفة العلوية الأقلية، إلى السلطة في سبعينيات القرن الماضي، غيّر موازين القوى بشكل كبير. فعلى الرغم من الخطاب العلماني الرسمي للنظام البعثي، إلا أنه اعتمد بشكل متزايد على الولاءات الطائفية، وخاصة العلوية، لتعزيز قبضته على المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية. هذا الأمر خلق شعوراً بالظلم والتهميش لدى قطاعات واسعة من الأغلبية السنية، التي شعرت بأنها مستبعدة من مراكز القرار والثروة ، كما أن سياسات النظام، التي وصفتها بعض المصادر بأنها “إدارة للانقسامات” بدلاً من حلها، عمّقت الشروخ بين المكونات المختلفة للمجتمع .
مع اندلاع الانتفاضة عام 2011، سرعان ما اتخذ الصراع أبعاداً طائفية واضحة. استخدم النظام الخطاب الطائفي لتصوير الاحتجاجات على أنها مؤامرة سنية متطرفة مدعومة من الخارج، بهدف حشد الأقليات، وخاصة العلويين والمسيحيين، خلفه عبر تخويفهم من البديل .
في المقابل، تبنت بعض فصائل المعارضة والجماعات المسلحة التي ظهرت لاحقاً خطاباً طائفياً مضاداً، موجهاً ضد العلويين والشيعة بشكل عام، مما أدى إلى حلقة مفرغة من العنف والكراهية المتبادلة.أدت الحرب إلى تفاقم الاستقطاب الطائفي بشكل غير مسبوق. ارتكبت جميع الأطراف، بما في ذلك النظام والمعارضة والجماعات المتطرفة، انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان على أسس طائفية، بما في ذلك القتل، والتهجير القسري، والتغيير الديمغرافي الممنهج في بعض المناطق .
انضم مقاتلون أجانب من خلفيات طائفية مختلفة إلى الصراع، بتشجيع ودعم من قوى إقليمية ودولية، مما زاد من تعقيده وأجج نيرانه، وحول سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات الطائفية الإقليمية . هذه الانقسامات الطائفية العميقة، وما نتج عنها من انعدام الثقة والخوف المتبادل، تمثل العقبة الأكبر أمام بناء عقد اجتماعي جديد في سوريا .
فالعقد الاجتماعي يتطلب حداً أدنى من الثقة المتبادلة والشعور بالانتماء المشترك إلى وطن واحد، وهو ما تآكل بشدة بفعل سنوات الحرب والتحريض الطائفي. أصبح من الصعب تصور اتفاق السوريين على مبادئ أساسية تحكم علاقتهم بالدولة وببعضهم البعض في ظل غياب الثقة، وتراكم المظالم، والخوف من هيمنة طائفة على أخرى.
إن أي محاولة جدية لبناء عقد اجتماعي في سوريا المستقبل يجب أن تتضمن آليات واضحة وفعالة لمعالجة المظالم التاريخية والحالية المرتبطة بالطائفية. يتطلب ذلك ضمان حقوق جميع الطوائف والأفراد بغض النظر عن انتمائهم الديني، وتجريم الخطاب الطائفي والتحريض على الكراهية بشكل قاطع (المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة).
كما يجب التأكيد على مبدأ المواطنة المتساوية كأساس للعلاقة بين الدولة والمواطنين، وفصل الدين عن الدولة بشكل يضمن حيادها تجاه جميع الأديان والطوائف، مع احترام حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية للجميع. بدون مواجهة صريحة لإرث الطائفية السلبي، ومعالجة جذورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتضميد الجراح العميقة التي خلفتها الحرب، سيبقى بناء مستقبل مشترك ومستقر لسوريا، يقوم على عقد اجتماعي عادل وشامل، أمراً بعيد المنال.
ثانياً: تأثير الانقسامات العرقية إلى جانب الانقسامات الطائفية:
تشكل الانقسامات العرقية تحدياً كبيراً آخر أمام بناء عقد اجتماعي مشترك في سوريا. فالمجتمع السوري ليس متجانساً عرقياً، بل يضم أغلبية عربية إلى جانب مكونات عرقية أخرى لها تاريخها وثقافتها وتطلعاتها الخاصة، أبرزها الأكراد، والتركمان، والسريان/الآشوريين، والأرمن، والشركس.
تعتبر القضية الكردية هي الأكثر بروزاً وتأثيراً في المشهد السوري. يشكل الأكراد أكبر أقلية عرقية في البلاد، ويتركزون بشكل أساسي في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية على طول الحدود مع تركيا والعراق .
عانى الأكراد في سوريا لعقود طويلة من سياسات التهميش والتمييز التي مارسها نظام البعث، والتي شملت حرمان أعداد كبيرة منهم من الجنسية السورية في إحصاء عام 1962، والقيود المفروضة على استخدام اللغة والثقافة الكردية، وسياسات التعريب التي استهدفت تغيير أسماء المناطق والتركيبة السكانية في المناطق ذات الأغلبية الكردية.
هذه المظالم التاريخية غذت شعوراً بالمرارة لدى الأكراد، ودفعتهم للمطالبة بحقوقهم الثقافية والسياسية والاعتراف بهويتهم القومية.
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وجد الأكراد، وخاصة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وجناحه العسكري وحدات حماية الشعب (YPG)، فرصة لتعزيز نفوذهم في مناطقهم.
استفادوا من انسحاب قوات النظام من بعض المناطق، وبدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تمكنوا من السيطرة على مساحات واسعة وتأسيس إدارة ذاتية في شمال وشرق سوريا.
تطرح هذه الإدارة الذاتية نموذجاً للحكم الفيدرالي أو اللامركزي، مؤكدة على حقوق جميع المكونات العرقية والدينية في مناطق سيطرتها، وهو ما يتعارض مع رؤية الدولة المركزية التي يتبناها النظام وأجزاء من المعارضة.
أدى صعود النفوذ الكردي وتأسيس الإدارة الذاتية إلى تعقيد المشهد السوري وزيادة الانقسامات.
فمن ناحية، أثار هذا الأمر مخاوف لدى تركيا المجاورة التي تعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي امتداداً لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً لديها، مما دفعها للتدخل عسكرياً في شمال سوريا.
ومن ناحية أخرى، أثار توترات مع بعض المكونات العربية في المناطق التي سيطرت عليها القوات الكردية، حيث ظهرت اتهامات بممارسات تمييزية أو محاولات لفرض الهيمنة الكردية.
بالإضافة إلى القضية الكردية، هناك قضايا أخرى تتعلق بالمكونات العرقية الأخرى مثل التركمان والسريان/الآشوريين. التركمان، الذين تربطهم علاقات قوية بتركيا، يتوزعون في مناطق مختلفة، خاصة في الشمال، وكان لهم دور في الصراع، حيث دعمت تركيا فصائل تركمانية مسلحة. أما السريان/الآشوريون، وهم من أقدم المكونات السكانية في المنطقة، فقد انقسموا في مواقفهم خلال الحرب، وعانوا من التهديدات والهجرة، شأنهم شأن العديد من الأقليات الأخرى (المصدر: نون بوست).هذه الانقسامات العرقية، والمظالم التاريخية، والتطلعات المتباينة، وغياب الثقة بين المكونات المختلفة، كلها عوامل تعيق بناء عقد اجتماعي سوري جديد.
فالعقد الاجتماعي يتطلب اتفاقاً على هوية وطنية جامعة تعترف بالتنوع وتحترمه، وتضمن المساواة في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين بغض النظر عن عرقهم. يتطلب الأمر أيضاً اتفاقاً على شكل الدولة ونظام الحكم، وهو ما يمثل نقطة خلاف رئيسية، خاصة فيما يتعلق بمسألة المركزية واللامركزية أو الفيدرالية التي يطالب بها الأكراد.لذلك، فإن أي عقد اجتماعي مستقبلي لسوريا يجب أن يعالج بشكل جدي ومباشر القضايا المتعلقة بالحقوق العرقية والثقافية. يجب أن يضمن الدستور الجديد الاعتراف بجميع المكونات العرقية، وحماية حقوقها الثقافية واللغوية، وضمان مشاركتها الفعالة في الحياة السياسية والاقتصادية. كما يجب إيجاد حلول عادلة للمظالم التاريخية، وبناء جسور الثقة بين المكونات المختلفة من خلال الحوار والمصالحة.
إن تجاهل هذه القضايا أو محاولة فرض حلول لا تلبي تطلعات جميع المكونات لن يؤدي إلا إلى استمرار حالة عدم الاستقرار وتعميق الانقسامات، مما يهدد وحدة سوريا ومستقبلها.
ثالثاً: دور المناطقية في تفكك النسيج الاجتماعي:
تضاف المناطقية كبعد ثالث للانقسامات العميقة التي تعصف بالمجتمع السوري، مكملة بذلك ثلاثية الطائفية والعرقية التي تهدد إمكانية بناء عقد اجتماعي مشترك. فإلى جانب الولاءات الدينية والقومية، لعبت الانتماءات والهويات المناطقية دوراً هاماً في تشكيل العلاقات الاجتماعية والسياسية في سوريا، وغالباً ما تم توظيفها لتعميق الانقسامات وتفكيك النسيج الوطني.
تتجلى المناطقية في سوريا بأشكال مختلفة، أبرزها التنميط والأحكام المسبقة التي يحملها أبناء منطقة معينة تجاه أبناء المناطق الأخرى. تنتشر صور نمطية سلبية ومُسْتَهْزِئة تربط صفات معينة بأهل منطقة ما، مثل “الشامي المبندق”، “الحلبي المجقجق”، “الحمصي الأجدب”، أو النظرة الدونية لأبناء الريف (“الفلاح”) أو أبناء المنطقة الشرقية (“الشوايا”) (المصدر: تلفزيون سوريا، رصيف22). هذه الصور النمطية، حتى لو بدت في بعض الأحيان كنوع من المزاح، فإنها تعكس وتعزز شعوراً بالاستعلاء أو الدونية، وتخلق حواجز نفسية واجتماعية بين أبناء الوطن الواحد.
تاريخياً، ساهمت عوامل جغرافية واقتصادية وسياسية في تعزيز الهويات المناطقية. فالتفاوت في التنمية بين المناطق المختلفة، وتركيز السلطة والثروة في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى الأخرى، خلق شعوراً بالتهميش لدى أبناء المناطق الأقل حظاً. كما أن سياسات النظام المركزي، التي أهملت في كثير من الأحيان خصوصيات المناطق المختلفة واحتياجاتها، ساهمت في تغذية الشعور بالظلم والولاء للمنطقة على حساب الولاء للدولة.تفاقمت ظاهرة المناطقية بشكل كبير خلال سنوات الحرب الأهلية. أدى النزوح والتهجير الواسع النطاق إلى احتكاك غير مسبوق بين مجموعات سكانية من مناطق مختلفة، وغالباً ما تم هذا الاحتكاك في ظروف صعبة من التنافس على الموارد الشحيحة، مما أدى إلى زيادة التوتر والاحتكاك وظهور أشكال من التمييز والتنمر على أساس مناطقي. كما أن سيطرة قوى أمر واقع مختلفة (النظام، فصائل المعارضة، الإدارة الذاتية، الجماعات المتطرفة) على مناطق جغرافية محددة، وتحول البلاد إلى “جزر معزولة”، عزز الانقسامات المناطقية وحولها إلى حدود سياسية وعسكرية واجتماعية فعلية (المصدر: TRT عربي، جدلية).
أصبح الانتماء المناطقي، في كثير من الحالات، عاملاً مؤثراً في تحديد فرص العمل، والحصول على المساعدات، وحتى في التعامل اليومي بين الأفراد. ظهرت “عصبيات” مناطقية ضيقة، حيث يميل الناس إلى التكتل مع أبناء منطقتهم وتقديم الدعم لهم على حساب الآخرين، مما يزيد من تفتيت المجتمع ويضعف الشعور بالهوية الوطنية الجامعة.
تشكل هذه المناطقية المتجذرة، والتي تفاقمت بفعل الحرب، عقبة إضافية أمام بناء عقد اجتماعي سوري جديد. فالعقد الاجتماعي يتطلب تجاوز الانتماءات الضيقة، سواء كانت طائفية أو عرقية أو مناطقية، والارتقاء إلى مستوى المواطنة المتساوية التي تضمن حقوق جميع السوريين بغض النظر عن مكان ولادتهم أو إقامتهم. يتطلب الأمر بناء هوية وطنية سورية جامعة تحتضن التنوع المناطقي وتعتبره مصدر ثراء لا انقسام، وتوزيعاً عادلاً للتنمية والموارد بين جميع المناطق، ونظام حكم يضمن مشاركة جميع المناطق في صنع القرار.
إن معالجة المناطقية تتطلب جهوداً على مستويات متعددة، تشمل التوعية الثقافية لنبذ الصور النمطية والتنمر، وسياسات تنموية متوازنة، وإصلاحات سياسية تضمن اللامركزية والمشاركة العادلة لجميع المناطق في إدارة شؤون البلاد.
بدون ذلك، ستبقى المناطقية، إلى جانب الطائفية والعرقية، عاملاً مدمراً للنسيج الاجتماعي السوري ومعيقاً أساسياً أمام بناء مستقبل مشترك ومستقر.
رابعاً: محاولات بناء العقد الاجتماعي والتحديات:
إن الحديث عن بناء عقد اجتماعي جديد في سوريا ليس مجرد ترف فكري، بل هو ضرورة ملحة تفرضها حالة التفكك والانقسام العميق التي يعيشها المجتمع بعد سنوات طويلة من الاستبداد والحرب الأهلية المدمرة. فالعقد الاجتماعي الموروث من حقبة حكم حزب البعث، والذي قام على أساس تقديم الدولة للأمن والخدمات الأساسية مقابل الولاء المطلق، قد انهار تماماً، ولم يعد يمثل أي أساس شرعي للعلاقة بين السلطة والمجتمع.
مع سقوط نظام الأسد في أواخر عام 2024، دخلت سوريا مرحلة انتقالية جديدة تفتح الباب أمام إمكانية صياغة عقد اجتماعي مختلف، لكن هذه الإمكانية تصطدم بتحديات هائلة وتجارب سابقة لم تكتمل أو واجهت صعوبات جمة.محاولات ونماذج مطروحة مثل عقد الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا: تعتبر التجربة التي قادتها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (التي تمثل المظلة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”) من أبرز المحاولات العملية لصياغة عقد اجتماعي بديل في جزء من البلاد. أصدرت الإدارة الذاتية “عقداً اجتماعياً” محدثاً في نهاية عام 2023، يركز على مبادئ اللامركزية الديمقراطية، والمساواة بين جميع المكونات العرقية والدينية، وحقوق المرأة، والعدالة الاجتماعية، والبيئة (المصدر: عنب بلدي، مركز الحوار السوري). يطرح هذا العقد نموذجاً للدولة اللامركزية أو الفيدرالية، ويؤكد على التمسك بالمواثيق الدولية. ورغم أهمية هذه التجربة كنموذج محلي، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة تتعلق بالاعتراف بها على المستوى الوطني والدولي، والمخاوف من “الانفصال” أو الهيمنة الكردية، بالإضافة إلى التوترات الداخلية والتدخلات الخارجية، خاصة من تركيا.
1.نقاشات المعارضة والمجتمع المدني: شهدت السنوات الماضية نقاشات مستفيضة داخل أوساط المعارضة السورية السياسية ومنظمات المجتمع المدني حول شكل الدولة السورية المستقبلية ومبادئ العقد الاجتماعي الجديد. تركزت هذه النقاشات حول ضرورة بناء دولة ديمقراطية تعددية تقوم على المواطنة المتساوية، وسيادة القانون، وفصل السلطات، واحترام حقوق الإنسان، والاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي والديني.
ومع ذلك، ظلت هذه النقاشات نظرية إلى حد كبير، ولم تتبلور في مشروع وطني موحد يحظى بإجماع واسع، بسبب الانقسامات العميقة داخل المعارضة نفسها، وغياب رؤية مشتركة حول قضايا أساسية مثل شكل الدولة (مركزية أم لا مركزية) وعلاقة الدين بالدولة.
2.الدعوات للمصالحة الوطنية: تبرز دعوات متكررة لعملية مصالحة وطنية شاملة كمدخل ضروري لبناء عقد اجتماعي جديد. تركز هذه الدعوات على ضرورة معالجة جراح الماضي، وتحقيق العدالة الانتقالية، وبناء الثقة بين المكونات المختلفة للمجتمع. ومع ذلك، تصطدم هذه الدعوات بصعوبة تحقيق العدالة في ظل استمرار الانقسامات وغياب الإرادة السياسية لدى العديد من الأطراف.
3.التحديات الرئيسية: تواجه أي محاولة لبناء عقد اجتماعي مشترك في سوريا تحديات هائلة، يمكن تلخيص أبرزها في
غياب الثقة: تعتبر أزمة الثقة العميقة بين مختلف مكونات المجتمع السوري (الطائفية، العرقية، المناطقية) وبين المواطنين والسلطات المختلفة، هي العقبة الأكبر. سنوات الحرب والانتهاكات المتبادلة خلقت جروحاً عميقة يصعب تجاوزها.
1. الانقسامات العميقة: كما تم تحليله سابقاً، تشكل الانقسامات الطائفية والعرقية والمناطقية حواجز أساسية أمام بناء هوية وطنية جامعة والاتفاق على مبادئ مشتركة.
2. التدخلات الخارجية: تحولت سوريا إلى ساحة للصراع والتنافس الإقليمي والدولي، ولكل قوة خارجية أجندتها ومصالحها التي تتعارض غالباً مع بناء دولة سورية مستقلة وموحدة وقادرة على صياغة عقدها الاجتماعي الخاص.
3. انتشار السلاح والفوضى الأمنية: وجود العديد من الفصائل المسلحة وهيمنة منطق القوة يعيقان أي عملية سياسية سلمية تهدف إلى بناء توافق وطني.
4. الأزمة الاقتصادية والإنسانية: يعاني معظم السوريين من ظروف اقتصادية وإنسانية كارثية، مما يجعل أولويتهم هي البقاء وتأمين لقمة العيش، وقد يصرفهم ذلك عن الانخراط في نقاشات حول العقد الاجتماعي.
5. إرث الاستبداد: عقود من الحكم الاستبدادي أدت إلى تدمير الحياة السياسية والمجتمع المدني، وغياب ثقافة الحوار والتسامح وقبول الآخر.
6. غياب الإرادة السياسية: لا تزال العديد من القوى الفاعلة على الأرض، داخلياً وخارجياً، غير مستعدة لتقديم التنازلات اللازمة للتوصل إلى حل سياسي شامل وعقد اجتماعي عادل.
7. إن بناء عقد اجتماعي جديد في سوريا يتطلب عملية طويلة ومعقدة تبدأ بمعالجة جذور الانقسامات، وتحقيق حد أدنى من الأمن والاستقرار، وإطلاق حوار وطني شامل يضم جميع مكونات المجتمع السوري، بدعم دولي حقيقي يهدف إلى مساعدة السوريين على تقرير مستقبلهم بأنفسهم، وليس فرض حلول خارجية. بدون ذلك، ستبقى سوريا مهددة بالانقسام والتفكك، وسيبقى حلم العقد الاجتماعي المشترك بعيد المنال.
خامساً: الوضع الحالي وإمكانيات المستقبل..
تقف سوريا اليوم عند مفترق طرق حاسم بعد سقوط نظام الأسد. فبينما يمثل هذا التحول فرصة تاريخية للتخلص من إرث الاستبداد وبناء مستقبل أفضل، إلا أن الوضع الحالي يتسم بدرجة عالية من التعقيد والهشاشة، مما يجعل مهمة بناء عقد اجتماعي جديد وشامل أمراً محفوفاً بالمخاطر والتحديات الجسيمة.الوضع الحالي: تشظي وفرصة سانحة التشظي السياسي والعسكري: لا تزال البلاد مقسمة بحكم الأمر الواقع بين مناطق نفوذ مختلفة تسيطر عليها قوى محلية متعددة (مثل هيئة تحرير الشام في إدلب، والإدارة الذاتية في الشمال الشرقي، وفصائل المعارضة المختلفة المدعومة من تركيا، بالإضافة إلى بقايا النظام السابق والقوات الحكومية المؤقتة). هذا التشظي يعيق بناء سلطة مركزية قادرة على فرض سيادتها على كامل التراب السوري وإطلاق عملية سياسية جامعة .
• الانهيار الاقتصادي والأزمة الإنسانية: يعاني الاقتصاد السوري من انهيار شبه كامل، مع تدهور قيمة العملة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات كارثية. يعتمد جزء كبير من السكان على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة. هذا الوضع يجعل من الصعب التركيز على القضايا السياسية طويلة الأمد مثل العقد الاجتماعي.
• استمرار التدخلات الخارجية: لا تزال القوى الإقليمية والدولية لاعباً رئيسياً في المشهد السوري، ولكل منها مصالحها وأجندتها الخاصة التي قد تتعارض مع بناء عقد اجتماعي وطني مستقل.
• غياب الثقة وتعمق الانقسامات: كما تم تفصيله سابقاً، لا تزال الانقسامات الطائفية والعرقية والمناطقية وغياب الثقة تمثل السمات الأبرز للمجتمع السوري، مما يعيق أي محاولة للتقارب والتوافق.
• الفرصة السانحة: رغم كل هذه التحديات، يمثل سقوط النظام فرصة غير مسبوقة لفتح صفحة جديدة. هناك رغبة واسعة لدى غالبية السوريين، كما تشير بعض الاستطلاعات والدراسات، في بناء دولة ديمقراطية تقوم على المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان (المصدر: syriainside.com). كما أن هناك زخماً جديداً للنقاش حول مستقبل سوريا والعقد الاجتماعي المطلوب.
• إمكانيات المستقبل ومتطلبات النجاح:
إن بناء عقد اجتماعي جديد ومستدام في سوريا يتطلب توافر مجموعة من الشروط وتحقيق تقدم على مسارات متوازية
الحوار الوطني الشامل: لا يمكن فرض عقد اجتماعي من طرف واحد. يجب إطلاق عملية حوار وطني شامل تضم ممثلين عن جميع المكونات السياسية والاجتماعية والعرقية والدينية والمناطقية في سوريا، بما في ذلك ممثلين عن اللاجئين والنازحين والمجتمع المدني والمرأة والشباب. يجب أن يهدف هذا الحوار إلى التوصل إلى توافق حول المبادئ الأساسية للدولة السورية المستقبلية.
1. المواطنة المتساوية كأساس: يجب أن يقوم العقد الاجتماعي الجديد على مبدأ المواطنة المتساوية لجميع السوريين بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو طائفتهم أو منطقتهم أو جنسهم. يجب أن يضمن الدستور الجديد المساواة التامة في الحقوق والواجبات أمام القانون (المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة)
2. الاعتراف بالتنوع وإدارته: يجب الاعتراف بالتنوع العرقي والديني والثقافي كسِمة أساسية للمجتمع السوري، وضمان حقوق جميع المكونات في الحفاظ على هويتها وممارسة ثقافتها ولغتها وشعائرها الدينية بحرية. النقاش حول شكل الدولة (مركزية، لا مركزية، فيدرالية) يجب أن يهدف إلى إيجاد صيغة تضمن مشاركة الجميع وتحقق التوازن بين وحدة الدولة وحقوق المكونات والمناطق.
3. العدالة الانتقالية والمصالحة: لا يمكن بناء مستقبل مشترك دون معالجة مظالم الماضي. يتطلب ذلك عملية عدالة انتقالية شاملة تتضمن كشف الحقيقة، ومساءلة مرتكبي الانتهاكات، وجبر ضرر الضحايا، وإصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية. يجب أن تترافق العدالة مع جهود حقيقية للمصالحة المجتمعية.
4. بناء المؤسسات الديمقراطية: يجب تأسيس مؤسسات دولة ديمقراطية قوية ومستقلة، تقوم على سيادة القانون، وفصل السلطات، وتداول السلطة سلمياً عبر انتخابات حرة ونزيهة.
5. دور المجتمع الدولي: يجب أن يلعب المجتمع الدولي دوراً داعماً ومسهلاً لعملية بناء العقد الاجتماعي، مع احترام سيادة سوريا وقرار السوريين. يجب أن يركز الدعم الدولي على الجوانب الإنسانية وإعادة الإعمار، ودعم عملية الحوار والمصالحة، والضغط على جميع الأطراف للالتزام بالحل السياسي.
سيناريوهات محتملة:
السيناريو المتفائل: نجاح السوريين في إطلاق حوار وطني شامل يؤدي إلى توافق على عقد اجتماعي جديد ودستور ديمقراطي، بدعم دولي فعال، مما يمهد الطريق لمرحلة انتقالية مستقرة وإعادة بناء الدولة والمجتمع.
السيناريو الواقعي: استمرار حالة التشظي والانقسام لفترة طويلة، مع صعوبة التوصل إلى توافق وطني شامل. قد تظهر نماذج حكم محلية مختلفة (مثل استمرار تجربة الإدارة الذاتية)، مع بقاء التوترات والصراعات منخفضة الحدة، وصعوبة تحقيق الاستقرار والتنمية على المستوى الوطني.
السيناريو المتشائم: فشل عملية الحوار والمصالحة، وتجدد الصراعات الداخلية، وزيادة التدخلات الخارجية، مما يؤدي إلى مزيد من التفكك والانقسام، وربما تقسيم البلاد فعلياً، واستمرار الأزمة الإنسانية والاقتصادية.
خاتمة وتوصيات
إن مهمة بناء عقد اجتماعي مشترك في سوريا تبدو شاقة ومعقدة للغاية في ظل الإرث الثقيل من الاستبداد والحرب والانقسامات العميقة التي مزقت البلاد، لقد أظهر هذا التقرير كيف أن ثلاثية الطائفية والعرقية والمناطقية، التي تم تسييسها واستغلالها بشكل ممنهج، قد شكلت تهديداً وجودياً لإمكانية بناء هوية وطنية جامعة وتوافق مجتمعي على أسس مشتركة للمستقبل.
أدت هذه الانقسامات إلى تآكل الثقة، وتعميق المظالم، وخلق حواجز نفسية واجتماعية وسياسية يصعب تجاوزها.
ومع ذلك، فإن سقوط النظام السابق يمثل فرصة تاريخية، وإن كانت محفوفة بالمخاطر، لفتح صفحة جديدة. إن الرغبة الكامنة لدى قطاعات واسعة من السوريين في العيش بكرامة وحرية ومساواة، والحاجة الملحة لتحقيق الاستقرار وإعادة بناء البلاد، يمكن أن تشكل دافعاً قوياً للسعي نحو عقد اجتماعي جديد. لكن تحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف الفاعلة، داخلياً وخارجياً، واستعداداً لتقديم التنازلات، والالتزام بعملية طويلة وشاملة لمعالجة جذور الأزمة.
بناءً على التحليل المقدم، يمكن طرح التوصيات التالية كخطوات ضرورية للمضي قدماً نحو بناء عقد اجتماعي مشترك في سوريا.
إطلاق حوار وطني شامل وحقيقي: يجب أن يكون هذا الحوار ممثلاً لجميع مكونات المجتمع السوري دون إقصاء، وأن يهدف إلى التوصل لتوافق حول المبادئ الأساسية للدولة والمجتمع، بما في ذلك الهوية الوطنية، وشكل الدولة، وعلاقة الدين بالدولة، وحقوق المواطنين.
1.التركيز على المواطنة المتساوية: يجب أن تكون المواطنة المتساوية، القائمة على الحقوق والواجبات المتساوية لجميع السوريين بغض النظر عن أي انتماء فرعي، هي حجر الزاوية في أي عقد اجتماعي جديد ودستور مستقبلي.
2.الاعتراف بالتنوع وإدارته بشكل عادل: يجب الاعتراف الدستوري والقانوني بالتنوع الطائفي والعرقي والثقافي في سوريا، وضمان حقوق جميع المكونات في الحفاظ على هويتها وممارسة ثقافتها ولغتها، وإيجاد صيغة حكم (قد تكون لا مركزية) تضمن مشاركة الجميع وتحقق التوازن بين وحدة الدولة وحقوق المكونات والمناطق.
3.تطبيق العدالة الانتقالية الشاملة: لا يمكن بناء ثقة ومستقبل مشترك دون معالجة انتهاكات الماضي. يجب إطلاق عملية عدالة انتقالية تتضمن كشف الحقيقة، والمساءلة، وجبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، والمصالحة المجتمعية.
4.تجريم خطاب الكراهية والتمييز: يجب سن قوانين صارمة تجرم التحريض على الكراهية والتمييز على أساس طائفي أو عرقي أو مناطقي، والعمل على نشر ثقافة التسامح وقبول الآخر عبر التعليم والإعلام.
5.تحقيق التنمية المتوازنة: يجب وضع خطط تنموية تهدف إلى تحقيق توزيع عادل للموارد والثروات بين جميع المناطق السورية، ومعالجة التفاوتات الاقتصادية التي تغذي الشعور بالتهميش والمناطقية.
6.دور دولي بناء: يجب على المجتمع الدولي دعم عملية سياسية شاملة بقيادة سورية، وتقديم المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار دون تسييس، والضغط على جميع الأطراف لإنهاء التدخلات السلبية والالتزام ببناء مستقبل سلمي وديمقراطي لسوريا.
7.إن الطريق نحو بناء عقد اجتماعي مشترك في سوريا سيكون طويلاً ومليئاً بالتحديات، ولكنه يمثل السبيل الوحيد لإنهاء دوامة العنف والانقسام وتحقيق السلام والاستقرار الذي يستحقه الشعب السوري.
شفاء صوان – ريادة للدراسات