شهدت سوريا، منذ بدء الاحتجاجات الشعبية التي انتهت بعد 14 عاماً بإسقاط نظام الأسد، شهدت واحدة من أعمق أزمات النزوح الداخلي في العالم.
ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة، تجاوز عدد النازحين داخلياً 6.8 ملايين شخص، يعيش معظمهم في ظروف إنسانية صعبة، ما يجعل أزمة النزوح أحد أبرز التحديات التي تواجه سوريا اليوم.
ورغم ما حظيت به الجوانب الإنسانية من اهتمام واسع، إلا أن الآثار الاجتماعية العميقة والطويلة الأمد، خصوصاً على النسيج الاجتماعي السوري، لا تزال بحاجة إلى معالجة ممنهجة وشاملة.
يهدف هذا التقرير إلى تحليل الأبعاد المجتمعية للنزوح الداخلي في سوريا، من خلال قراءة سياقية لأثره على العلاقات الاجتماعية، وأنماط التعايش، والهويات المحلية، مع تقديم رؤى وتوصيات تساهم في صياغة تدخلات أكثر وعيًا بالسياق الاجتماعي والإنساني.
أولاً: الحقوق الأساسية للنازحين
يتمتع النازحون داخلياً بمجموعة من الحقوق المنصوص عليها في “المبادئ التوجيهية للنزوح الداخلي”، والتي تندرج ضمن إطار حقوق الإنسان. تشمل هذه الحقوق:
الحق في الحياة والتعليم والحماية الاجتماعية
الحقوق المدنية بوصفهم مواطنين، مثل: الانتخاب، الترشح، وتولي المناصب العامة
الحقوق الخاصة بوضعهم كنازحين، كالحصول على وثائق الهوية ووسائل إعادة التأهيل والدعم الفني
ثانياً: النزوح كعامل اضطراب اجتماعي
شكّل النزوح الداخلي عاملاً مفككاً للعلاقات التقليدية التي كانت تشكل أساس التماسك الاجتماعي. فانتقال السكان من بيئات متجانسة دينياً أو اجتماعياً إلى مجتمعات أكثر تنوعاً أو هشاشة أدى إلى بروز العديد من مظاهر الاضطراب، من أبرزها:
- تفكك الروابط القرابية والمجتمعية بسبب التهجير المتكرر والانفصال الجغرافي
- تصاعد الانتماءات الفرعية نتيجة التنافس على الموارد المحدودة
- انعدام الثقة الاجتماعية بين النازحين والمجتمعات المضيفة، أحياناً بتأثير الخطاب الإعلامي والسياسي
- الضغوط النفسية الناتجة عن فقدان الأمان والاستقرار
- تفكك الأطر التقليدية داخل الأحياء والمجتمعات، ما أدى إلى ضعف آليات الضبط الاجتماعي
ثالثاً: أنماط التكيف والتضامن المجتمعي
ورغم التحديات، برزت في بعض المناطق ديناميات مجتمعية إيجابية تُظهر قدرة المجتمع السوري على التكيّف وبناء التضامن، منها:
- تأسيس شبكات دعم اجتماعي قائمة على التعاون والمساعدة المتبادلة
- إطلاق مبادرات مجتمعية لتعزيز التماسك بدعم من أفراد أو منظمات محلية
- تعزيز التفاهم والتفاعل بين فئات مجتمعية مختلفة
- إعادة تعريف الهوية المحلية على أسس تتجاوز الطائفة والمنطقة
- تنظيم حوارات وورش عمل لتعزيز التفاهم بين المكونات الدينية والعرقية
- تبادل الموارد والخبرات، لا سيما في مجالات التعليم والعمل
- ظهور وعي مشترك بأهمية المشاركة في التنمية المجتمعية
ورغم أهميتها، ظلت هذه المبادرات محلية ومحدودة الأثر، وغالباً ما اصطدمت بعوائق سياسية واقتصادية حالت دون استمراريتها أو تعميمها.
رابعاً: تداعيات النزوح على المدى الطويل
مع استمرار النزاع، تحول النزوح الداخلي من حالة طارئة إلى واقع ديموغرافي مستقر نسبياً، الأمر الذي أفرز تحديات بعيدة المدى، من بينها:
- إعادة توزيع السكان بشكل يؤثر على التوازنات الاجتماعية والسياسية
- تعقيد فرص العودة أو إعادة التوطين أو الاندماج المحلي
- إضعاف البنية الاقتصادية للمجتمعات المتضررة وتراجع مستويات المعيشة
- ظهور هويات جديدة مرتبطة بتجربة النزوح والانفصال عن البيئات الأصلية
- صعوبات تعليمية تشمل الانقطاع عن الدراسة، وصعوبات الوصول، والحواجز اللغوية
- خطر نشوء مجتمعات موازية خارجة عن الأطر الرسمية
- ضرورة تنسيق الجهود الإنسانية والتنموية لتلبية الاحتياجات المتزايدة والمتنوعة
خامساً: نحو تعزيز التماسك الاجتماعي في سياق النزوح
إن إعادة بناء النسيج الاجتماعي في سوريا تتطلب استراتيجية شاملة تأخذ في الاعتبار الخصوصيات الثقافية والسياسية، ومن أبرز التوصيات:
- تصميم برامج اندماج مجتمعي بالشراكة مع الفاعلين المحليين، تركز على الحوار، العدالة، ومشاركة الجميع في صنع القرار
- تعزيز التفاهم والتواصل بين مختلف الشرائح الاجتماعية
- دعم المبادرات غير المسيسة التي تهدف لبناء الثقة
- تمكين الشباب من المساهمة في عمليات التنمية وصنع القرار
- دعم الإعلام المجتمعي في سرد قصص النجاح والتضامن
- توفير بيئة آمنة وخدمات أساسية تشمل الدعم النفسي والاجتماعي
- التركيز على التماسك الاجتماعي كجزء من سياسات التعافي المبكر، وليس كأولوية إنسانية فقط
إن النزوح الداخلي في سوريا ليس مجرد أزمة إنسانية مؤقتة، بل هو تحدٍ بنيوي يعيد رسم ملامح الهوية السورية ويهدد وحدة المجتمع.
ولأن أفق العودة لا يبدو قريباً، فإن الأولوية يجب أن تُمنح لبناء الثقة وتعزيز العلاقات بين مكونات المجتمع المحلي، وتفعيل دور الفاعلين المحليين في قيادة مسار تعافٍ اجتماعي واقعي ومستدام.
هند أحمد – ريادة للدراسات