منذ الاحتجاجات في سوريا عام 2011، دخلت البلاد مرحلة غير مسبوقة من التمزق الاجتماعي والسياسي، طالت ليس فقط المؤسسات والبنى التحتية، بل أصابت جوهر المجتمع السوري وهويته الجامعة. الحرب، بكل تداعياتها الإنسانية والسياسية والطائفية والاقتصادية، لم تكن مجرد أزمة سياسية عابرة، بل شكّلت زلزالاً عميقًا ضرب مفاصل الهوية السورية، التي لطالما وُصفت بالتعدد والتعايش رغم هشاشتها المؤسساتية.
لقد تداخلت في هذا النزاع عوامل عديدة: الانتماءات الأولية (طائفية، إثنية، عشائرية)، الصراع على السلطة، التدخلات الدولية، والفراغ السياسي، ما أدى إلى تآكل الرابط الوطني الجامع. ولعلّ أحد أخطر تداعيات النزاع هو تفكك النسيج الاجتماعي السوري، وتحوّل الانتماء الوطني إلى مفهوم ملتبس، مقابل صعود هويات فرعية. من هنا، تأتي أهمية هذه الورقة في تفكيك الديناميكيات التي ساهمت في هذا التشظي، والبحث في مقومات إعادة ترميم الهوية الوطنية على أسس أكثر عدالة وشمولًا.
أولاً: الحرب وتفكك النسيج الاجتماعي السوري
الانقسامات الطائفية والإثنية:
رغم أن المجتمع السوري تاريخيًا متعدد الطوائف والأعراق (عرب، أكراد، سريان، أرمن، مسلمون سنة وعلويون وشيعة، دروز، مسيحيون…)، إلا أن الخطاب الرسمي قبل عام 2011 كان يتبنى مقاربة “الهوية الواحدة” تحت شعارات مثل “أمة عربية واحدة”. هذا الخطاب غطّى على التمايزات، لكنه لم يعالجها. ومع اندلاع النزاع، ظهرت الهويات الفرعية بشكل صارخ، لتتحول من حالة رمزية أو ثقافية إلى أدوات سياسية وعسكرية.
فقد انقسمت الجغرافيا السورية إلى كانتونات طائفية أو إثنية في بعض الأحيان، عزّزها انتشار السلاح وغياب الدولة، كما نشأت ميليشيات مسلحة على أساس انتماءات ضيقة، ساهمت في إذكاء الصراع بين المكونات. هذا الواقع أدّى إلى انعدام الثقة، وتعميق الفجوة بين الجماعات، مما زاد من هشاشة النسيج الاجتماعي.
النزوح والشتات:
يُقدّر عدد اللاجئين السوريين بأكثر من 6 ملايين، فيما نزح أكثر من 7 ملايين داخليًا. هذا التهجير الممنهج، أكان بدوافع أمنية أم سياسية أو اقتصادية، أدى إلى تدمير القرى والبلدات ومحو الخصوصيات المحلية. وبفعل الشتات، باتت الهوية السورية تتشكل في بيئات جديدة، ما أنتج ما يُمكن تسميته بـ “الهوية العابرة للحدود”، وهي حالة من الازدواجية بين الانتماء الأصلي والاندماج القسري في مجتمعات جديدة. هذه الهوية المنقسمة تحمل تحديات مستقبلية كبرى، خاصة على صعيد إعادة الارتباط العاطفي والمجتمعي بسوريا ما بعد الحرب.
عسكرة المجتمع وتفتت السلطة:
أنتج تعدد الفاعلين العسكريين، سواء من التنظيمات المسلحة المحلية أو القوى الأجنبية، بيئات متباينة سرديًا وفكريًا. ففي كل منطقة نشأت سرديات متباينة عن الوطنية، والعدو، والعدالة. وعلى سبيل المثال، في مناطق سيطرة النظام السوري، استُخدم خطاب “السيادة ومكافحة الإرهاب” لتعزيز شرعية الدولة، بينما في مناطق المعارضة برزت شعارات “الثورة والحرية”، وفي مناطق الإدارة الذاتية ظهر خطاب “الديمقراطية المحلية والتمثيل الإثني”. هذا التناقض السردي خلق أجيالًا من السوريين نشأوا على رؤى متناقضة حول معنى سوريا، والهوية، والانتماء.
ثانيًا: تشظي الهوية الوطنية وتآكل الشعور بالانتماء
ضعف الرموز الوطنية:
فقدت الرموز الوطنية السورية جزءًا كبيرًا من قيمتها الجامعة. تغيّرت الأعلام والنشيد الوطني وفق مناطق السيطرة، كما نشأت رموز بديلة تعكس الانقسام السياسي. لم تعد المدرسة، ولا الإعلام، ولا حتى المؤسسات الدينية تقوم بدور موحد في تشكيل وعي وطني مشترك. بدلاً من ذلك، باتت تلك الرموز توظَّف سياسيًا، مما جعل منها أدوات استقطاب لا توحيد.
تصاعد خطاب الكراهية:
ساهم الإعلام – الرسمي والمعارض على حد سواء – في تعزيز خطاب الكراهية، وتأجيج الاستقطاب الطائفي والسياسي. أُشيع خطاب التخوين، وتمّ تصوير كل من يختلف بالرأي على أنه “خائن” أو “عميل”. كما لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مزدوجًا: من جهة منصة للتعبير الحر، ومن جهة أخرى، مساحة لتضخيم الاستقطاب، ونشر الروايات الأحادية التي ساهمت في تمزيق النسيج القيمي للمجتمع.
انهيار القيم الجمعية:
سادت خلال الحرب قيم جديدة قائمة على النجاة الفردية، على حساب القيم المجتمعية مثل التكافل، التسامح، والعدالة. بات الإنسان السوري يُدافع عن ذاته، أسرته، وطائفته، بدلاً من الانخراط في مشروع وطني. هذا الانهيار في البنية القيمية جعل من الصعب الحديث عن “هوية وطنية” موحدة، إذ فُقد الإحساس بالأمان والانتماء والعدالة، وهي أركان أساسية لأي هوية جامعة.
إمكانيات ترميم الهوية الوطنية
رغم كل هذا الدمار الرمزي والاجتماعي، فإن ثمة فرصًا لإعادة بناء الهوية الجمعية، بشرط توفُّر الإرادة السياسية، والمناخ الإقليمي والدولي المناسب.
العدالة الانتقالية والمصالحة:
إن أي مسار لبناء هوية وطنية جديدة لا يمكن أن ينجح دون معالجة الماضي. يجب الكشف عن الحقيقة، توثيق الانتهاكات، ومحاسبة المسؤولين عنها. العدالة الانتقالية ليست مجرد محاكمات، بل مسار شامل يعيد الثقة بين المواطنين، ويؤسس لرؤية وطنية تقوم على الاعتراف المتبادل والإنصاف.
دور المجتمع المدني:
المنظمات المدنية قادرة على لعب دور جوهري في ردم الفجوات النفسية والثقافية بين السوريين، من خلال مبادرات المصالحة، والبرامج التعليمية، والحوار المجتمعي. كما أن مشاركة السوريين في الشتات ضرورية، فهم يشكّلون جزءًا من الهوية الجديدة، بما يحملونه من خبرات ووعي بديمقراطيات بديلة.
إصلاح التعليم والإعلام:
يجب مراجعة المناهج التربوية جذريًا، بحيث تعزز قيم التعددية والمواطنة وحقوق الإنسان، وتقدم رواية تاريخية شاملة وغير إقصائية. كذلك، يحتاج الإعلام الوطني إلى خطاب جامع يركز على ما يوحّد لا ما يفرّق، وينبذ السرديات التحريضية.
اللامركزية كأداة لإدارة التنوع:
يمكن للامركزية الإدارية والسياسية أن تشكّل آلية فعالة لإدارة التنوع، شرط أن تُصمَّم ضمن إطار وطني شامل، لا يؤدي إلى الانفصال أو التقسيم. يجب أن تعني اللامركزية: التمثيل، والمشاركة، والعدالة في توزيع السلطة والثروات، وليس إعادة إنتاج الهويات الضيقة.
التحديات الماثلة
رغم وجود فرص حقيقية، إلا أن العقبات ما تزال كبيرة:
الاستقطاب السياسي:
لا تزال الانقسامات بين النظام والمعارضة، وداخل المعارضة نفسها، تُجهض أي محاولة لبناء توافق وطني. كما أن غياب رؤية جامعة لمستقبل سوريا، يجعل من أي حوار حول الهوية أمرًا شديد الصعوبة.
التدخلات الخارجية:
الفاعلون الدوليون يلعبون أدوارًا متناقضة. بعضهم يدعم قوى انفصالية، وآخرون يحرصون على استمرار النزاع كأداة نفوذ. هذه التدخلات تجعل من الهوية السورية رهينة لتوازنات إقليمية ودولية.
غياب الإرادة السياسية:
النخب الحاكمة، سواء في النظام أو في المعارضة، لم تُظهر حتى الآن استعدادًا حقيقيًا لتقديم تنازلات تاريخية تفتح الباب أمام صياغة عقد اجتماعي جديد يضمن إعادة بناء الهوية.
يمكن القول: إن الحرب السورية لم تدمّر فقط الحجر والبشر، بل ضربت في الصميم مفهوم “نحن” السوريين. ما كان في السابق هوية فضفاضة قائمة على تعايش هش، صار اليوم سؤالًا مفتوحًا على احتمالات الانفصال أو إعادة التأسيس.
ومع أن الهويات الفرعية برزت كأدوات حماية خلال الحرب، إلا أن المستقبل لا يمكن أن يُبنى على تشرذم الهوية، بل على صياغة مشروع وطني جديد، يُعيد تعريف “سوريا” بوصفها دولة مواطنة لا دولة طائفة أو عشيرة أو إثنية. الهوية الوطنية السورية لن تُستعاد بنُسَخ الماضي، بل بتخيل جديد يأخذ الدروس من الألم، ويؤسس لسلام حقيقي يبدأ من العقول والقلوب.