شهدت سوريا منذ عام 2011 نزاعًا مسلحًا معقدًا بين نظام سلطوي وأطراف مدنية تطالب بالحرية والديمقراطية. ومع تصاعد هذا النزاع وتحوله إلى صراع متعدد الأطراف، باتت انتهاكات القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان جزءًا جوهريًا من المشهد السوري. وقد أصبحت سوريا مسرحًا لتدخلات إقليمية ودولية متشابكة، انعكست بصورة مباشرة على تطبيق القانون الدولي، مما وضع المجتمع الدولي أمام تحديات قانونية وأخلاقية غير مسبوقة.
أولاً: انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في سوريا
شهدت السنوات الأولى من النزاع ارتكاب انتهاكات جسيمة وممنهجة من قبل النظام السوري، تمثلت باستخدام الأسلحة الكيميائية (كما في مجازر الغوطة 2013)، وارتكاب مجازر بحق المدنيين (مثل مجزرة الحولة). وقد وثقت منظمات دولية كالأمم المتحدة والشبكة السورية لحقوق الإنسان تنفيذ مئات الهجمات الكيميائية، إضافة إلى انتهاكات قامت بها الميليشيات الداعمة للنظام. ورغم تأكيد تقارير لجان التحقيق الدولية مسؤولية النظام عن جرائم ضد الإنسانية، فإن العدالة ما زالت بعيدة المنال، حيث إن قواعد القانون الدولي غالبًا ما كانت تنتهك بدلاً من أن تُحترم.
ثانياً: التحديات القانونية أمام محاسبة مرتكبي الجرائم الدولية
تُعد تعددية الأطراف وتغير التحالفات في سوريا من أبرز العوائق أمام تحديد المسؤوليات الجنائية بدقة. كما يفتقر السياق السوري إلى مؤسسات قضائية مستقلة وفعالة قادرة على المحاسبة. وتعطل روسيا والصين مرارًا محاولات إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية باستخدام الفيتو، ما يؤكد اختلال ميزان العدالة الدولي. ورغم بعض المبادرات القانونية الأوروبية في مجال المساءلة، إلا أن أثرها ما زال محدودًا ولم يمنع محاولات تطبيع العلاقات مع النظام السوري حتى سقوطه.
ثالثاً: دور المنظمات الدولية في مراقبة تطبيق القانون الدولي
رغم محدودية تأثير مجلس الأمن بسبب التسييس، لعبت الأمم المتحدة دورًا مهمًا في مراقبة الوضع السوري، من خلال إقرار قرارات كخطة كوفي عنان ذات النقاط الست، والقرار 2254 الداعي إلى انتقال سياسي. كما أُنشئت هيئات رقابية وأُطلقت مبادرات سلام، إلا أن تنفيذها ظل مرهونًا بالتوافقات الدولية غير المتحققة. وقد شكلت هذه الجهود قاعدة قانونية لمراقبة مدى التزام الأطراف بمبادئ القانون الدولي، لكنها بقيت عاجزة عن فرض آليات محاسبة فعلية.
رابعاً: التدخلات الإقليمية والدولية وتأثيرها على مسار القانون الدولي
ساهمت التدخلات الإقليمية والدولية بشكل مباشر في إعاقة تطبيق القانون الدولي بسوريا، إذ وظفت بعض الدول مصالحها الاستراتيجية لدعم أطراف في النزاع، مما أضعف جهود الأمم المتحدة وأفرغ قراراتها من مضمونها. وقد تحولت سوريا إلى ساحة صراع بالوكالة، مما ساهم في تعقيد الأزمة وتصاعد أعمال العنف والتطرف، بالإضافة إلى التأثير الكبير للدول الكبرى كروسيا التي استخدمت الفيتو لتعطيل أي مساءلة دولية للنظام.
خامساً: الحماية القانونية للاجئين والنازحين السوريين
كرّس القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف لعام 1951 مبادئ حماية اللاجئين، لا سيما مبدأ عدم الإعادة القسرية. رغم ذلك، لا تزال الحماية الممنوحة للاجئين والنازحين داخل سوريا تواجه إشكاليات قانونية، خصوصًا في ظل غياب صك دولي ملزم خاص بالنازحين داخليًا. وقد لعبت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين دورًا بارزًا في رعاية اللاجئين، كما قدمت بعض الدول، مثل ألمانيا، استجابة إنسانية لافتة. إلا أن الانقسامات السياسية حالت دون تحقيق حماية شاملة، مما يؤكد الحاجة إلى تعزيز التزامات الدول تجاه هذه الفئات.
سادساً: توثيق الانتهاكات وآليات المساءلة
أدى غياب منظمات حقوقية محلية فاعلة في بدايات الثورة إلى اعتماد التوثيق على جهود فردية، تطورت لاحقًا عبر منظمات مثل “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، الذي لعب دورًا محوريًا في جمع الأدلة وتوثيق الجرائم من أجل دعم العدالة الانتقالية. ويُعد التوثيق القانوني عنصرًا أساسيًا لأي عملية محاسبة مستقبلية، إذ يوفر قاعدة بيانات يمكن الاستناد إليها أمام المحاكم الوطنية أو الدولية، ويساعد على إعادة بناء المؤسسات القانونية بما يضمن العدالة والمساواة.
إن تطبيق القانون الدولي في الحالة السورية يواجه تحديات بنيوية وسياسية، أبرزها تسييس المؤسسات الدولية، وتعدد الأطراف في النزاع، وتدخلات خارجية أفشلت فرص الحل.
ورغم ما تحقق من خطوات في مجال التوثيق والمساءلة، تبقى العدالة بعيدة المنال ما لم تتوفر إرادة دولية حقيقية، وتُفعّل آليات قانونية فعالة لضمان عدم الإفلات من العقاب. ولتحقيق مستقبل قانوني عادل في سوريا، لا بد من إعادة بناء الثقة بالمؤسسات، وتبني نهج شامل للعدالة الانتقالية يراعي الضحايا، ويعزز ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع السوري.