استعراض لأدوات العدالة الانتقالية الممكنة لتحقيق المصالحة دون إفلات من العقاب
مقدمة
منذ اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، تحوّل المشهد السوري إلى ساحة صراع دموي معقّد الأطراف، أفرز واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.
تراوحت الانتهاكات بين جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وعمليات تهجير قسري، وتعذيب ممنهج، وقتل خارج القانون، ارتكبتها أطراف مختلفة، ولكن بدرجات متفاوتة.
وفي ظل هذه الوقائع، تبرز العدالة الانتقالية كمسار ضروري لمداواة جراح الماضي، وتحقيق المصالحة الوطنية، دون الوقوع في فخ الإفلات من العقاب أو الانتقام السياسي.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل إمكانية تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا، واستعراض أدواتها، وتحديد التحديات التي قد تعيق تحقيقها، من منطلق تحقيق العدالة للضحايا، ومحاسبة الجناة، وبناء مستقبل قائم على المواطنة والكرامة الإنسانية.
أولًا: مفهوم العدالة الانتقالية وأهدافها
العدالة الانتقالية تشير إلى مجموعة من الآليات القضائية وغير القضائية التي تعتمدها الدول الخارجة من الصراعات أو الأنظمة الاستبدادية، بهدف معالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. تشمل هذه الآليات أربعة عناصر رئيسية:
- المساءلة والمحاسبة القضائية
- جبر الضرر وتعويض الضحايا
- كشف الحقيقة
- الإصلاح المؤسسي ومنع التكرار
- لا تهدف العدالة الانتقالية فقط إلى محاسبة الجناة، بل تسعى لبناء عقد اجتماعي جديد يعيد الثقة بين المواطن والدولة، ويؤسس لسوريا جديدة تحترم الحقوق والحريات
ثانيًا: واقع الانتهاكات في سوريا وتحديات العدالة
شهدت سوريا خلال النزاع المستمر ممارسات موثقة لانتهاكات واسعة، أبرزها:
- القتل الجماعي وقصف المناطق المدنية
- الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري
- التعذيب الممنهج في السجون
- استخدام الأسلحة الكيماوية
- حصار وتجويع المدنيين
- التهجير القسري والتغيير الديموغرافي
وقد وثّقت منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش، والعفو الدولية، وآلية الأمم المتحدة للتحقيق، هذه الانتهاكات بدقة. ومع ذلك، فإن العدالة لا تزال غائبة، بسبب تعقيدات المشهد السياسي، وانقسام المجتمع الدولي، وتعطيل مجلس الأمن عبر الفيتو.
ثالثًا: أدوات العدالة الانتقالية الممكنة في الحالة السورية
المساءلة القضائية
رغم تعثّر المساءلة داخل سوريا، هناك فرص حقيقية للمحاسبة عبر:
الاختصاص القضائي العالمي: لجأت بعض الدول الأوروبية (مثل ألمانيا، فرنسا، السويد) لمحاكمة متورطين سوريين في انتهاكات، بموجب اختصاصها في الجرائم الدولية. محاكمة أنور رسلان في كوبلنز مثال بارز.
محاكم دولية خاصة: يمكن تشكيل محكمة دولية خاصة بسوريا، مثل محاكم يوغوسلافيا ورواندا سابقًا، في حال توفرت الإرادة السياسية الدولية.
محاكم هجينة أو محلية بإشراف دولي: تُعد خيارًا قابلًا للتطبيق في حال حدوث انتقال سياسي جزئي، وتوفر قضاء وطني نزيه.
لجان الحقيقة والمصالحة
لجان الحقيقة تعمل على توثيق الجرائم والانتهاكات، والاستماع إلى الشهادات، بهدف إظهار الحقيقة وإقرار الاعتراف الرمزي بالألم والمعاناة. لها دور رمزي مهم في شفاء المجتمعات، وهي جزء أساسي من العدالة الانتقالية. يمكن تأسيس لجنة سورية للحقيقة مستقبلاً، تضم شخصيات موثوقة من مختلف المكونات.
جبر الضرر وتعويض الضحايا
يتطلب الاعتراف بالضحايا اتخاذ إجراءات مادية ومعنوية، مثل:
التعويضات المالية لأسر الضحايا والمعتقلين والمفقودين
إعادة تأهيل المصابين وذوي الاحتياجات الخاصة
رد الاعتبار عبر الاعتذار الرسمي، وتخليد الذكرى، وتوثيق الجرائم
دعم نفسي واجتماعي للناجين
هذا المسار لا يُعالج فقط الألم، بل يعيد بناء الثقة بالعدالة، ويضمن مشاركة الضحايا في صناعة المستقبل.
الإصلاح المؤسسي
لن تكون هناك عدالة مستدامة دون إصلاح جذري للمؤسسات التي ساهمت في إنتاج الانتهاكات، وعلى رأسها:
الأجهزة الأمنية
القضاء
الجيش والشرطة
الإعلام الرسمي
التعليم
الإصلاح يعني ضمان الاستقلالية، والرقابة، ومحاسبة الفاسدين، وضمان أن لا تتكرر الجرائم في المستقبل.
رابعًا: المصالحة الوطنية بين الضرورة والمخاوف
المصالحة ليست تنازلًا عن العدالة، بل نتيجة طبيعية لها إذا طُبقت على أسس صحيحة. في الحالة السورية، تميل بعض الأطراف إلى تقديم “مصالحة شكلية” عبر عفو عام دون محاسبة. لكن تجارب دول أخرى (كجنوب إفريقيا وكولومبيا) أثبتت أن المصالحة الحقيقية تمر عبر الاعتراف، والحقيقة، والتعويض، والمحاسبة.
على المصالحة أن تراعي التالي:
عدم التمييز بين الضحايا على أساس الانتماء السياسي أو الطائفي
نبذ الخطابات التحريضية والكراهية
ضمان مشاركة مجتمعية واسعة في مسار العدالة
خامسًا: التحديات السياسية والقانونية أمام العدالة الانتقالية
غياب الانتقال السياسي
العدالة الانتقالية عادةً ما ترتبط بمرحلة انتقالية تنهي حكمًا استبداديًا أو صراعًا دمويًا. في سوريا، لا يزال النظام قائمًا دون أي اتفاق سياسي شامل، ما يصعّب الحديث عن تطبيق العدالة.
تدخلات دولية متضاربة
الدول المتدخلة في الملف السوري ليست جميعها معنية بمسار العدالة، وبعضها متورط في الانتهاكات، ما يجعل العدالة الانتقالية عرضة للانتقائية أو التسييس.
استقطاب المجتمع السوري
الانقسامات الحادة، والخطاب الطائفي، والانفصال الجغرافي، تخلق صعوبات أمام أي مشروع جامع للعدالة والمصالحة.
ضعف مؤسسات المجتمع المدني
في ظل التضييق الأمني أو ظروف اللجوء، يواجه المجتمع المدني صعوبات في لعب دوره في التوثيق، والدفاع عن الضحايا، وصياغة رؤية للعدالة.
سادسًا: مداخل مقترحة للعدالة الانتقالية في سوريا
خارطة طريق تشاركية تشمل المعارضة، والمجتمع المدني، وأسر الضحايا، مع ضمان التمثيل المتوازن لكافة المكونات.
تشجيع التوثيق المستقل وإطلاق منصات موحدة تجمع الأدلة والشهادات.
تعاون مع تجارب دولية مشابهة عبر مراكز الدراسات ومنظمات العدالة.
دعم برامج توعية ومناصرة داخل سوريا وفي الشتات، لتثقيف المجتمع حول العدالة الانتقالية ومناهضة الإفلات من العقاب.
إن العدالة الانتقالية في سوريا ليست مجرد ترف قانوني أو مطلب نخبوي، بل ضرورة وجودية لمداواة ذاكرة جماعية مثقلة بالجراح. دون محاسبة الجناة، وتعويض الضحايا، وإصلاح مؤسسات الدولة، ستبقى أسباب النزاع قائمة، مهددةً بانفجارات مستقبلية.
تحقيق العدالة لا يعني إقصاء طرف لصالح آخر، بل بناء سردية وطنية جديدة تعترف بالمعاناة المشتركة، وتضع الإنسان وكرامته في قلب المشروع السوري الجديد. إن مسار العدالة الانتقالية طويل وشاق، لكنه الطريق الوحيد نحو سلام دائم، ومواطنة متساوية، ومستقبل مشترك.