لا يغفل على أحد التأثير المباشر لسعر الصرف في المستوى العام للأسعار وفي الاقتصاد بشكل عام، وهذا ما يحثّ الدول لضبط سعر صرف عملتها الوطنية وفق نماذج ضبط معينة للسياسة النقدية، فتلجأ المصارف المركزية إلى وضع سياسة معينة لإدارة سعر الصرف كهدف وسيط للسياسة النقدية تمهيداً لتحقيقها الهدف النهائي على المدى الطويل المتمثل باستقرار معدل التضخم والمساهمة بتعزيز معدل النمو الاقتصادي، وتتطلب سياسة إدارة سعر الصرف بدورها تحقق مجموعة من الشروط لعلّ من أهمّها القدرة على التنبؤ بمتغير الهدف الوسيط من جهة وإمكانية التأثير فيه من جهة أخرى، أي تحديد الهدف المرجو وكيفية التأثير في العوامل المختلف لتحقيق هذا الهدف، ولذلك اتجهت معظم الدول لعدم ترك سعر صرف عملتها الوطنية حُراً دونما تدخل من السلطات النقدية المتمثلة بالمصرف المركزي بل وضعت قواعد معينة لذلك من خلال تدخل المصرف المركزي لتحقيق المطلوب، حيث يتبع حجم هذا التدخل وإجراءاته بالدرجة الأولى إلى حجم التغير المقبول (الهامش) الذي يُسمح التحرك ضمنه من قبل المصرف المركزي، فنظام سعر الصرف ليس بالنظام الجامد بل يختلف بناءً لطبيعة اقتصاد كلّ دولة والظروف التي تمر بها ومقوماتها على المدى القصير والمتوسط والطويل الأجل.
وفي هذا الصدد، فالمتابع لسعر صرف الليرة السورية خلال السنوات الماضية يعلم أنّ سعر صرف الليرة قد شهد انخفاضات ملحوظة أمام الدولار الأمريكي سواءً السعر الرسمي المعتمد من قبل مصرف سورية المركزي أو سعر الصرف في السوق الموازي، ولا سيما ما تعرّض له من انتكاسة كبيرة جداً خلال عامي 2023 و2024، حيث سجل سعر الصرف في السوق الموازي الأرقام القياسية الأقل لليرة السورية أمام الدولار حينها ليصل سعر الصرف خلال العام 2024 ولغاية بداية شهر كانون الأول من العام نفسه إلى مستوى 15 ألف ل.س، وقد ترافقت هذه الانخفاضات في سعر الصرف خلال العامين 2023 و2024 بسلسلة تخفيضات لسعر الصرف الرسمي أيضاً، حيث إن تعطل الإنتاج والعقوبات والظروف كانت من أبرز أسباب تراجع سعر الصرف وهذا بحث آخر.
وخلال الأيام القليلة السابقة لسقوط النظام البائد، شهد سعر الصرف انخفاضاً حاداً ليصل في السوق السوداء لأعلى مستوى قياسي بواقع 28 ألف ل.س، والذي عاود التحسن بشكل تدريجي بعد السقوط مقارنةً بالأيام السابقة له، واستمر هذا التحسن خلال الخمسة أشهر الأولى من العام 2025 ليبلغ سعر الصرف الرسمي بتاريخ 27/05/2025 نحو 11,055 ل.س فيما السعر في السوق الموازية بحدود 9,400 ل.س، وعلى الرغم من هذا التحسن في سعر الصرف إلا أنه ليس بالسعر المستند إلى اقتصاد قوي يدعمه، فالانتاج مازال في حدوده الدنيا، والتصدير منخفض في ظل زيادة في المستوردات خلال هذه الأشهر الخمسة السابقة ككميات وأرقام مع اتباع نظام اقتصاد السوق الحر.
وفي هذا الصدد، فعند دراسة مدى قدرة المصرف المركزي على تحقيق هدفه الوسيط من جهة والنهائي من جهة أخرى لا بدّ من استعراض أمرين اثنين، الأول مدى تقارب سعر الصرف الرسمي من سعر الصرف التوازني، والثاني هو المستوى العام للأسعار وتكاليف المعيشة، وتجاوزاً في الأبحاث الأكاديمية يمكن التعبير عن سعر الصرف التوازني بسعر الصرف في السوق الموازية، حيث تهدف السلطة النقدية من خلال إدارة سعر الصرف إلى إدارة الاقتصاد الكلي، فالمحافظة على سعر مستقر قريب من مستوياته التوازنية هو هدف واجب التحقيق، فعندما تكون الأسعار بشكل عام مستقرة وعقلانية أي أنها متوقعة أو قابلة للتوقع فإن الاقتصاد يعمل بشكل أفضل، أما عند تذبذبات سعر الصرف وتغيره المفاجئ والغير متوقع فإن ذلك يؤثر سلباً في قيمة النقد وفي القوة الشرائية، وكذلك في تنفيذ العمليات التجارية على المستوى الكلي والجزئي.
كذلك لابد من الأخذ بالحسبان بأنّ انخفاض سعر الصرف يؤدي إلى آثار سلبية على تكاليف المواد المستوردة والتي تنعكس في معدل التضخم ما يؤثر مستقبلاً في قيمة سعر الصرف في السوق الموازية في حال تمّ التمويل عن طريقها وليس عن طريق السوق الرسمية كما هو الحال في سورية، فالمتتبع لإجراءات المصرف المركزي يرى أنه حافظ خلال الفترة المنصرمة على أدواته المستخدمة (سعر الفائدة، طرح شهادات إيداع)، ورافقها بتخفيض متتالي لسعر صرف الليرة أمام الدولار ليغدو قريباً من سعرها في السوق السوداء منطلقاً من أن ابتعاد سعر الصرف الجاري الرسمي عن مستواه التوازني يؤدي إلى عدم التوازن في الاقتصاد الكلي مما يجعل الاقتصاد أكثر ضعفاً عند التعرض للصدمات (خارجيةً كانت أم داخلية) أو لدى إثارة الإشعاعات، وهذا ما تنص عليه سياسة عدم الاصطفاف (Misalignment) التي أغفلها المصرف المركزي خلال إجراءاته طيلة 10 سنوات السابقة، حيث ربما كان يعترضه في ذلك مشكلة تحديد سعر الصرف التوازني الحقيقي.
وبذات الوقت، فإن التركيز الدائم على سعر الصرف من خلال دفاع المصرف المركزي عنه باعتباره هدف وسيط للسياسة النقدية يكتنفه الكثير من التحديات، ففي الحالات الطبيعية تعتبر السياسة الوحيدة المجدية للدفاع عن سعر الصرف هي رفع معدل الفائدة لأن سياسة الاحتياطيات الرسمية والتدخلات قد لا تكون كافية لاستقرار طويل الأجل لسعر الصرف، وفي هذا الصدد فإن آخر رفع لسعر الفائدة الدائنة في سورية كان بالقرار رقم 68/م ن تاريخ 03/04/2022 حيث تم رفع سعر الفائدة على الودائع لأجل شهر من 7% إلى 11% أي بنسبة رفع 57%، علماً أن رفع معدلات الفائدة هو الآخر له بعض المحاذير والتأثيرات التي تتطلب دراسات عميقة حيث إن من شأنه خلق بعض الآثار السلبية التي تتمثل بانخفاض النشاط التجاري والاقتصادي نتيجةً لما يسببه ارتفاع سعر الفائدة من ارتفاع تكلفة الاقتراض، وبالتالي إما احجام الشركات عن الاقتراض أو تحويل هذه النسبة من الفائدة إلى تكلفة المنتج النهائي وبالتالي ارتفاع الأسعار، ولذا فإن هذا الأمر يتوجب دراسته بدقة كأحد العوامل المؤثرة في معدل التضخم في الاقتصاد، وهذا يقودنا إلى ضرورة تشريع السياسات الداعمة والحافزة للنشاط الاقتصادي باتباع سياسات مالية وتجارية داعمة ومحفزة للإنتاج متزامنة مع السياسة النقدية، فالعبء ليس على عاتق السياسة النقدية فحسب، بل يتطلب تضافر كافة السياسات الاقتصادية، هذا في الفترات الطبيعية، فما بالنا بالاقتصاد السوري المتراجع بشكل كبير في كافة المؤشرات الاقتصادية، والمعاناة الكبيرة التي يعانيها صناعيو البلد ومنتجيه سواءً من حيث شح السيولة أو من حيث تضخم أسعار المواد الأولية المستوردة نتيجة انخفاض سعر الصرف وغيرها من الأسباب المتعلقة بحركة التجارة العالمية، وهذا يحتّم ضخ السيولة وتوفير التمويل اللازم لتحريك عجلة الإنتاج وتحسن العملية الإنتاجية، وهذا بدوره يُوجب على المصرف المركزي التدقيق والمراقبة الدائمة لاستخدامات التمويل الممنوح من المصارف والتدقيق في حجم عرض الليرة وآثاره على كافة المتغيرات الاقتصادية.
وفي هذا الإطار لا بدّ من الإشارة إلى التحديات التي قد تؤثر على استدامة استقرار سعر الصرف النسبي وعدم وجود فارق جوهري بين السعر الرسمي والسعر التوازني المعبر عنه على المدى القصير بسعر الصرف في السوق الموازية، ونذكر من هذه التحديات التحدي الخاص بعمليات الاستيراد ومدى القدرة على ضبطها وفق الأولويات بما لا يعمق من الأثر السلبي لتخفيض قيمة الليرة السورية، والتحدي الآخر هو كتلة السيولة بالليرة السورية المتوافرة في السوق (خاصةً في أشهر تمويل بعض المحاصيل كالقمح مثلاً) وما يكتنفها من آثار سلبية على قيمة العمل في حالة عدم القدرة على ضبط السيولة وعدم توجيهها نحو المضاربة، والتحدي الأكثر أهمية هو امتلاك المصرف المركزي لإحصائياته وأرقامه الدقيقة عن كافة متغيرات السياسة النقدية، وكافة العوامل المؤثرة بسعر الصرف، لتمكينه من الإدارة الراهنة لسعره الرسمي قريباً من السعر التوازني المفترض والذي يساعد في تقوية نظام سعر الصرف في سورية ليكون أكثر قدرةً على امتصاص الصدمات ويحقق استقراراً في سعر الصرف مما ينعكس استقراراً على الاقتصاد الكلي في المرحلة الحالية والقادمة (مرحلة إعادة الإعمار) ويسمح بجذب الأموال الخارجية للاستثمار، فمع أية تغيرات تحدث بسعر الصرف إيجاباً أم سلباً، فإن صداه سيكون في سعر صرف الليرة في السوق الموازي، وهذا يحتم على المصرف المركزي بشكل خاص والسياسة الاقتصادية بشكل عام العمل على معالجة العوامل المؤثرة في سعر الصرف لا سيما ارتفاع حجم الطلب الحقيقي وحجم الطلب غير الحقيقي (المضاربة) على الدولار، وهذا يتطلب القيام بإجراءات حثيثة لتحجيم الطلب غير الحقيقي (المضاربة)، فيما يبقى الطلب الحقيقي المتمثل بالمستوردات اللازمة للاقتصاد الوطني وبشكل خاص مستلزمات العملية الإنتاجية هو اللاعب الأساسي في الطلب على القطع الأجنبي.
د. علي محمد – ريادة للدراسات