نشر السفير الأميركي في أنقرة، توم باراك، بصفته مبعوثًا خاصًا إلى سوريا، رسالة مثيرة للانتباه عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، هاجم فيها السياسات الغربية الإمبريالية في الشرق الأوسط، ووجه نقدًا علنيًا لاتفاقية سايكس بيكو، واصفًا إياها بأنها “خطأ لن يتكرر”.
إرث سايكس بيكو يرتد على الغرب
لم تقتصر ارتدادات اتفاقية سايكس بيكو على المنطقة فحسب، بل امتدت تداعياتها إلى الغرب ذاته. فبعد أحداث “الربيع العربي”، وصلت موجات اللجوء إلى قلب أوروبا، وتمدد النفوذ الإيراني، وصعدت التنظيمات الجهادية المتطرفة، وتدخلت روسيا في “المياه الدافئة”، لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، ما شكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأميركي. تزامن ذلك مع نمو الصين بهدوء، في وقت كان فيه الغرب مشغولًا بمحاولة ترميم الخراب الذي خلفته سياساته واتفاقياته.
من الماضي إلى الحاضر
اتفاقية سايكس بيكو، أو “الخطة” كما يمكن تسميتها، تجاهلت التكوينات الإثنية والدينية والجغرافية لسكان الشرق الأوسط، وقسمت المنطقة على الورق إلى كيانات وحدود مصطنعة. الاستثناء الوحيد في هذه الاتفاقية كانت فلسطين، التي رُزحت لاحقًا تحت الاحتلال الإسرائيلي.
رغم أن الاتفاقية لم توقَّع رسميًا، فقد طُبِّق جزء منها: خضعت سوريا للانتداب الفرنسي، بينما وُضعت العراق وبعض دول الخليج تحت الانتداب البريطاني. أدار البريطانيون والفرنسيون المنطقة عبر أنظمة انتدابية تابعة، استمرت حتى سبعينيات القرن الماضي. ثم جاء الدور الإسرائيلي، فساهم في زرع الفوضى، وتعميق الانقسامات، وإشعال الحروب. ومنذ ذلك الحين، لم تعرف دول المنطقة الاستقرار، وتواصلت الصراعات الإثنية والدينية، كنتيجة مباشرة للإرث الاستعماري وهيمنة القوى الكبرى.
رغبات وتقسيمات جديدة
من الواضح اليوم أن الولايات المتحدة تسعى إلى أن تحل محل بريطانيا وفرنسا في معارك الهيمنة على الشرق الأوسط. ويبدو أن رسالة باراك لم تكن مجرد تلميح، بل حملت دلالات عميقة. فهل كان السفير الأميركي يلمح إلى صراعات جديدة على وشك الانفجار؟
إذا كانت رسالة باراك تحمل نوايا خفية، فإن المنطقة قد تكون على موعد مع محاولات جديدة لتفكيك الدول وتهديد الهويات القومية، وربما تأسيس كيانات مبنية على أسس عرقية وطائفية. وهذا المسار لن يؤدي إلا إلى المزيد من النزاعات الدموية المفتوحة.
فشل المنهج السابق ومحاولة التغيير
لا يجب التعامل مع بيان باراك كتصريح عابر. فبحسب محللين، يمكن اعتباره إشارة إلى تغيير عميق سيطال مستقبل المنطقة. البعض يراه تحولًا جذريًا قد يعيد تشكيل موازين القوى.
أدرك الغرب، بعد قرن من المشاريع الاستعمارية، أن ما سعى إليه لم ينجح، وأن استقرار دول المنطقة لن يتحقق إلا بإعادة تنظيمها بطرق جديدة، لا تعتمد على الاحتلال أو الإيديولوجيا أو التغيير الديموغرافي القسري. بل عبر شراكات تكاملية حقيقية، تقودها قوى إقليمية صاعدة مثل السعودية، التي تتحرك اليوم برؤية استراتيجية بعيدة المدى.
فشل سايكس بيكو نابع من كونها مشروعًا مفروضًا، خالٍ من الأسس الواقعية أو التأييد الشعبي. واليوم، لا يكفي الحديث عن القومية العربية أو إعادة الإعمار، بل المطلوب هو مشروع تصور جديد لوظيفة الدولة العربية في المنطقة.
سوريا كنموذج واقعي
خلال زيارته للسعودية، دعا الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى انضمام الدول العربية للاتفاقيات الإبراهيمية. وقد تسرّبت معلومات عن ضغوط على سوريا للانضمام، رغم استمرار احتلال إسرائيل لأراضيها.
هذا الضغط لا يعكس مجرد موقف شخصي من رئيس، بل يرتبط بتوجه استراتيجي أكبر، تؤكده التصريحات المتكررة من تل أبيب. ويقرأ بعض المحللين هذه التصريحات بعناية، ويربطونها بكلام توم باراك، لأن واشنطن لا تقدم على خطوات مصيرية في المنطقة من دون تنسيق مع إسرائيل، التي تستفيد من كل مشروع، سواء تم علنًا أو سرًا.
بالتالي، يجب على دمشق أن تكون يقظة تجاه فحوى هذه الرسائل والتصريحات والوعود التي تحمل في ظاهرها سلامًا، وتخفي في باطنها أجندات معقدة ومبهمة.
دول ما بعد سايكس بيكو
بالعودة إلى اتفاقية سايكس بيكو، يتضح أنها أنشأت دولًا ضعيفة وظيفيًا، وسهل اختراقها. فشلت المشاريع العربية في التوحد، لأنها تأسست على شعارات أيديولوجية بلا مؤسسات، ومن دون رؤية اقتصادية أو سياسية. كما أن تشبث الحكام بالسلطة، وإصرارهم على التوريث حتى فكريًا، جعل من الإصلاح أمرًا مستحيلًا.
سوريا، على سبيل المثال، دولة مركزية متضخمة، فوق بنى طائفية هشة. والعراق تأسس على توازن طائفي انهار مع أول تدخل غربي. ولبنان كيان هش قائم على تسويات جامدة، غير قابلة للإصلاح. وفلسطين دولة محتلة منذ نشأتها، مقسمة، بلا سيادة، بلا اقتصاد.
ما الحلول الممكنة؟
إعادة البناء من نقطة الصفر باتت مستحيلة، نتيجة تعقّد المشهد الاجتماعي والسياسي. فالحل الأنسب، كما يرى بعض المفكرين، هو إنشاء منظومة اندماج وظيفي شاملة بين الدول، تستند إلى التكامل في نقاط الضعف والقوة، وتستفيد من تجارب الدول العربية المختلفة.
فمثلًا:
-
السعودية تمتلك القدرة على اتخاذ القرار والتخطيط المستقبلي، لكنها بحاجة لتقنيات حديثة.
-
الإمارات متقدمة في الحوكمة الرقمية، لكنها تفتقر إلى عمق سياسي وشعبي.
-
الأردن يتميز بالاستقرار الأمني، لكنه يحتاج إلى دعم اقتصادي.
-
العراق غني بالثروات، لكنه يعاني من غياب الإدارة السليمة.
-
سوريا تملك موارد طبيعية وبشرية وموقعًا جغرافيًا استراتيجيًا، لكنها تحتاج إلى إعادة هيكلة أمنية وسياسية واقتصادية.
-
لبنان يمتلك موارد بشرية عالية، لكنه يحتاج إلى استقرار مالي.
-
مصر تملك جيشًا قويًا وكتلة بشرية ضخمة، لكنها تعاني من اختلال اقتصادي.
-
فلسطين، رغم ضعفها المؤسساتي، تملك رمزية سياسية عالية ووعيًا عربيًا عامًا.
هذه المنظومة يمكن أن تنتج دولًا ذات سيادة لا مركزية، تبقي على رمزية الأعلام والأنظمة، لكنها تضيف بُعدًا وظيفيًا في مجالات الاقتصاد والأمن والسياسة. ويمكن لهذا المحور الإقليمي—بقيادة الخليج وبدعم أميركي أوروبي، وربما بمشاركة إسرائيل غير المعلنة—أن يشكل سدًا أمام النفوذ الصيني المتزايد.
هذه الترتيبات الجديدة لا تُلغي سيادة الدول شكليًا، لكنها تنقل مركز اتخاذ القرار إلى منظومة إقليمية موحدة ذات قيادة سياسية عربية فاعلة. وقد تسهم في بناء خريطة جديدة للمشرق، لا تقوم على شعارات الوحدة الكلاسيكية، بل على تكامل واقعي موزّع حسب الكفاءة والقدرة.
هذا النموذج قد يحول دون تقسيم المنطقة مجددًا، ويمنع تكرار سيناريوهات الاستعمار، ويهيّئ أرضية لأول اتحاد عربي حقيقي قائم على أسس إدارية واقتصادية فعالة، بعد فشل المحاولات السابقة.