عانت السياسة الخارجية السورية خلال العقد الماضي من عزلة إقليمية ودولية عميقة، بفعل القمع الوحشي الذي مارسته قوات النظام السوري السابق، بالإضافة إلى الانقسامات الداخلية، والتدخلات الخارجية، مما جعلها رهينة اصطفافات إيديولوجية وتحالفات اضطرارية، بدلًا من أن تكون معبّرة عن رؤية وطنية مستقلة.
ومع التغيرات الحاصلة في بنية النظام السياسي السوري، تبرز الحاجة إلى إعادة هيكلة العلاقات الخارجية على أسس جديدة تضع المصالح الوطنية، والاستقلالية، والواقعية السياسية في صلب التوجهات الجديدة.
تسعى هذه الدراسة إلى تقديم إطار استراتيجي لإعادة تشكيل السياسة الخارجية السورية، من خلال تحليل السياق الإقليمي والدولي، واستعراض التحولات في السلوك الدبلوماسي السوري، وتقديم رؤية منهجية مبنية على البراغماتية والمرونة في صنع القرار الخارجي.
السياق العام للعلاقات الخارجية السورية (2011 – 2024)
العزلة السياسية والدبلوماسية
منذ 2011، شهدت سوريا قطع علاقاتها مع معظم الدول العربية والغربية، وخروجها من الجامعة العربية، وفرضت عليها عقوبات أوروبية وأمريكية قاسية. هذه العزلة حولت دمشق إلى محور تابع لتحالف إيراني-روسي، محدود الحركة، وغير قادر على التوازن بين القوى.
تحولات ما بعد 2020
مع تراجع حدة الحرب، وبروز قوى دولية جديدة فاعلة، بدأت بعض الدول بإعادة النظر في علاقاتها مع سوريا، مدفوعة بأولويات أمنية (مثل مكافحة الإرهاب وعودة اللاجئين) أو اقتصادية (إعادة الإعمار)، وهو ما فتح نافذة لإعادة إدماج دمشق تدريجيًا في النظام الإقليمي.
ملامح التحول في السياسة الخارجية السورية في عهد أحمد الشرع
زيارات دبلوماسية نشطة
منذ تولي الرئيس أحمد الشرع منصبه، بدأ بتكثيف التحركات الخارجية، حيث زار السعودية، والإمارات، وقطر، والأردن، ثم فرنسا والبحرين، في مؤشر على تحول استراتيجي في طريقة تعامل دمشق مع محيطها العربي والغربي، والانتقال من سياسة المواجهة إلى سياسة “التوازن والانفتاح”.
محاولة كسر الحصار الأوروبي
لقاء الشرع مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس شكل سابقة دبلوماسية، تُعبّر عن رغبة دمشق في العودة إلى طاولة التفاوض مع أوروبا، بعيدًا عن الخطابات الثورية أو العقائدية التي طغت على سياسة النظام السابق.
الأسس المقترحة لبناء سياسة خارجية جديدة
الاستقلالية السياسية
ينبغي أن تستعيد سوريا قرارها السيادي في رسم علاقاتها الخارجية، دون الخضوع لضغوط محور بعينه، سواء أكان شرقيًا أو غربيًا. هذا لا يعني التخلي عن التحالفات، بل إعادة ضبطها وفق قاعدة المصلحة المتبادلة لا التبعية.
الواقعية السياسية
البراغماتية هي ما يجب أن يحكم العلاقة مع الأطراف الدولية. يجب أن تتعامل دمشق مع الدول بناءً على قدرتها على تحقيق أهداف سوريا، وليس على مواقفها الأيديولوجية أو مواقفها من النظام. ينبغي أن تكون ملفات اللاجئين، ومحاربة الإرهاب، وإعادة الإعمار، فرصًا للتعاون لا نقاط توتر.
المصالح الوطنية قبل الشعارات
الخطاب السياسي الخارجي يجب أن يُركّز على حماية الأمن القومي، وإنعاش الاقتصاد، وتحقيق الاستقرار، بدل الانخراط في محاور أو نزاعات خارجية لا تخدم السوريين. يجب مثلًا الابتعاد عن التورط في صراعات خارجية لا تعني الدولة السورية مباشرة.
الأهداف الاستراتيجية للعلاقات الخارجية السورية
الخروج من العزلة الدولية
يُعد رفع العقوبات أو تخفيفها، وعودة العلاقات مع أوروبا وأمريكا، من أبرز أولويات السياسة الجديدة. يتطلب ذلك تقديم إشارات سياسية إيجابية مثل التعاون في ملف المفقودين الأجانب، والانفتاح على مبادرات الأمم المتحدة.
العودة إلى المحيط العربي
من خلال استعادة دور سوريا في جامعة الدول العربية، والانخراط في مبادرات إقليمية مشتركة في مجالات الأمن والاقتصاد، يمكن لسوريا أن تعيد تموضعها كفاعل محوري في الشرق الأوسط.
جذب الاستثمار لإعادة الإعمار
السياسة الخارجية يجب أن تكون أداة لجذب رأس المال العربي والدولي، من خلال طمأنة المستثمرين، وتقديم مشاريع شفافة ومدروسة، بعيدًا عن اقتصاد الولاءات أو التبعية لمصالح خارجية.
التحديات والعقبات
غياب الثقة الدولية
سنوات من الحرب والانتهاكات جعلت من الصعب استعادة ثقة المجتمع الدولي بسرعة. لذلك، يجب اعتماد مبدأ التدرج والشفافية في الخطاب السياسي والدبلوماسي.
التداخل الإقليمي في القرار السوري
الوجود الإيراني والروسي، والهيمنة على القرار العسكري والسياسي، يمثل تحديًا كبيرًا أمام استقلال القرار الخارجي، ويستدعي إعادة التفاوض على دور هذه القوى داخل سوريا.
ضعف البنية المؤسسية للدبلوماسية
تحتاج وزارة الخارجية السورية إلى إعادة تأهيل كوادرها، وتطوير أدواتها الاتصالية، وتوسيع شبكاتها في الخارج، خاصة في ظل تحولات الإعلام والديبلوماسية الرقمية.
سوريا اليوم
اليوم تمر سوريا في لحظة مفصلية من تاريخها المعاصر، إذ تخرج من سنوات طويلة من الحرب والاضطراب السياسي، نحو مرحلة تفرض عليها إعادة صياغة نهجها في العلاقات الخارجية، بما يتلاءم مع متغيرات الإقليم وتحولات النظام العالمي.
أولاً: مراجعة الإرث السياسي السابق
لا يمكن الحديث عن إعادة تشكيل السياسة الخارجية دون مراجعة للنهج السابق. فقد اتسمت السياسة السورية الخارجية، خلال العقود الأخيرة، بمحورية التحالف مع قوى معينة (الاتحاد السوفييتي سابقًا، إيران لاحقًا، وروسيا في السنوات الأخيرة)، ما جعل خياراتها مقيدة، وعلاقاتها بعدد من القوى الإقليمية والدولية متوترة.
وقد عمّق الصراع المسلح منذ 2011 من عزلة سوريا الإقليمية والدولية، بعد أن أُخرجت من جامعة الدول العربية، وتعرضت لعقوبات اقتصادية وسياسية، وأصبحت ساحة لصراع نفوذ إقليمي ودولي، مما أضعف هامش استقلالها في القرار السياسي.
ثانيًا: ملامح إعادة التموضع في عهد القيادة الجديدة
مع انتقال السلطة إلى الرئيس السوري أحمد الشرع، شهدت السياسة السورية تحركات دبلوماسية لافتة تشير إلى محاولة إعادة التموضع الإقليمي والدولي. زيارات الشرع إلى السعودية والإمارات وقطر والأردن، ثم البحرين، تزامنت مع لقاء دولي في باريس مع الرئيس الفرنسي، وهي جميعها مؤشرات على رغبة سورية في كسر العزلة واستعادة حضورها ضمن النظامين العربي والدولي.
تعكس هذه التحركات ملامح سياسة خارجية أكثر انفتاحًا، تقوم على “النعومة الدبلوماسية” بدل الصدام، وعلى مبدأ “تصفير الأزمات” مع دول الجوار، مع الحرص في الوقت نفسه على عدم التخلي عن ثوابت سيادية، كالوحدة الوطنية، واستقلال القرار.
ثالثًا: مقاربة واقعية جديدة للعلاقات الدولية
تقوم السياسة الواقعية على التعامل مع العالم كما هو، لا كما يجب أن يكون. وفي هذا السياق، فإن إعادة صياغة السياسة الخارجية السورية تتطلب:
التحرر من المحاور: الخروج من إطار التحالفات الصلبة والتوجه نحو شراكات مرنة تضمن مصالح سوريا دون التورط في صراعات الآخرين.
تنويع العلاقات: لا يجب أن تبقى العلاقة مع روسيا أو إيران هي القاعدة الوحيدة. يجب تطوير علاقات موازية مع الصين، والهند، ودول أميركا اللاتينية، إلى جانب إعادة بناء الجسور مع أوروبا وحتى الولايات المتحدة إذا اقتضت المصلحة الوطنية.
دبلوماسية اقتصادية نشطة: يجب أن تتحول السياسة الخارجية إلى أداة لجذب الاستثمارات، وفتح الأسواق، والحصول على دعم لمشاريع إعادة الإعمار، مع التركيز على تأمين حاجات البلاد من الطاقة والتكنولوجيا.
رابعًا: السياسة الخارجية كأداة لتأمين الاستقرار الداخلي
تحتاج سوريا إلى سياسة خارجية تخدم أولويات الداخل، لا العكس. ومن هذا المنطلق، ينبغي أن تركز العلاقات الخارجية على:
إعادة اللاجئين بالتنسيق مع الدول المستضيفة، ضمن إطار دولي يضمن الكرامة والكرامة الإنسانية.
رفع العقوبات من خلال حوار شفاف مع القوى الكبرى ومؤسسات المجتمع الدولي.
دعم إعادة الإعمار عبر فتح قنوات مع مؤسسات التمويل الدولية، واستقطاب القطاع الخاص من دول صديقة.
خامسًا: تجارب دولية مقارنة
إن إعادة التموضع السوري يمكن أن تستفيد من تجارب دول أخرى خرجت من أزمات مشابهة:
العراق بعد 2003: رغم الانقسام الداخلي، سعى العراق إلى علاقات متوازنة مع إيران والولايات المتحدة والدول العربية، مما منحه هامشًا أوسع للحركة.
لبنان في التسعينيات: استطاع لبنان في فترة ما بعد الحرب الأهلية جذب دعم دولي واسع لإعادة الإعمار بفضل سياسة خارجية محايدة نسبيًا ومرنة.
رواندا بعد الإبادة: طورت رواندا سياسة خارجية نشطة ترتكز على الانفتاح الاقتصادي والشراكة الإفريقية، مما أدى إلى تحولها إلى نموذج تنموي.
سادسًا: موقع سوريا في النظام العالمي المتغير
يتغير النظام الدولي بسرعة. الحرب الروسية الأوكرانية، تصاعد نفوذ الصين، وعودة التنافس الأميركي – الروسي، كلها عوامل تعيد تشكيل التوازنات. في هذا السياق، فإن سوريا قادرة على:
- اللعب على التوازنات دون الاصطفاف المطلق مع أي محور.
- استغلال موقعها الجغرافي كبوابة تربط آسيا بأوروبا والبحر المتوسط، مما يمنحها مزايا استراتيجية في مجالات الطاقة، والنقل، والتجارة.
- الانخراط في مبادرات إقليمية مثل مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، أو مشاريع الربط الكهربائي والمائي العربية.
سابعًا: الجاليات السورية كأداة دبلوماسية ناعمة
تمتلك سوريا جاليات نشطة في أوروبا وأميركا وأمريكا اللاتينية. يمكن تفعيل دور هذه الجاليات في:
- تحسين صورة الدولة في الخارج.
- نقل رؤوس الأموال والخبرات.
- تعزيز روابط المجتمع السوري مع العالم.
لكن ذلك يتطلب إصلاحات قانونية وتشريعية تكفل حرية العمل، وتضمن ثقة السوريين المغتربين في الدولة ومؤسساتها.
نحو سياسة خارجية سورية جديدة
إن سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف سياستها الخارجية بما ينسجم مع مصالحها الحقيقية، لا مع حسابات أيديولوجية أو تحالفات أُنهكت بفعل الحرب. تقوم هذه السياسة على الواقعية، والمرونة، والانفتاح، واستعادة السيادة على القرار الخارجي، ودمج الداخل بالخارج في معادلة شاملة تعزز من قدرة الدولة على النهوض من جديد.
وبينما لا تزال التحديات كبيرة، من العقوبات إلى إعادة الإعمار، ومن المفقودين إلى اللاجئين، فإن السياسة الخارجية الجديدة يمكن أن تكون بوابة عبور نحو مرحلة أكثر استقرارًا وفعالية، إذا ما أُحسن استثمار أدواتها ومجالاتها المتاحة.
إن إعادة تشكيل العلاقات الخارجية السورية ليست مجرد عملية تقنية أو رمزية، بل هي أحد مفاتيح الخروج من الأزمة الوطنية الشاملة. إن تبنّي سياسة خارجية واقعية، ومستقلة، قائمة على المصالح الوطنية، هو شرط أساسي لإعادة بناء الدولة السورية الحديثة، وتعزيز مكانتها في الإقليم والعالم.
وبينما تتغير توازنات القوى في المنطقة، فإن سوريا أمام فرصة استراتيجية لإعادة التموضع، شريطة أن تُغلّب مصالحها على الولاءات، وتنتقل من العزلة إلى الشراكة، ومن الدفاع إلى المبادرة.